الأمل يتجدد من وسط الركام
رغم تخطي عدد الشهداء بغزة منذ عملية طوفان الأقصى حتى كتابة هذه السطور 39 ألف شهيد، بخلاف أكثر من عشرة آلاف مفقود تحت الركام، وتخطى عدد الجرحى التسعين ألف مصاب، وهدم أكثر من 150 ألف منشأة، ونزوح أكثر من مليوني شخص عن مساكنهم، واعتقال أكثر من أربعة آلاف غزاوي بأماكن الاحتجاز الإسرائيلية غير الإنسانية.
ورغم بلوغ عدد الشهداء بالضفة الغربية منذ طوفان الأقصى 589، وعدد الجرحى بالضفة 5350، واعتقال 9485 شخصا، وهدم 990 منشأة، وتهجير 4509 أشخاص بالضفة. فما زالت غزة والضفة الغربية صامدتين رغم الحصار والتجويع والخذلان والتواطؤ، ومنع دخول المساعدات والصمت الدولي على استمرار المجازر الإسرائيلية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
إقامة الشرع في سوريا ونموذج أفغانستان
لماذا وافق نتنياهو على الهدنة الآن؟
ووسط هذه الظروف القاسية بغزة والضفة والغربية نتذكر أحداث غزوة الخندق، حينما كان المسلمون يحفرون الخندق بأيديهم في ظل البرد القارص والريح الشديدة والجوع، حيث اعترضتهم خلال الحفر صخرة شديدة فلجؤوا للرسول صلى الله وعليه وسلم، وحين ضربها الرسول الضربة الأولى انكسر ثلثها صاح مكبرا: لقد أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء من مكاني هذا. ومع الضربة الثانية للصخرة صاح مكبرا: لقد أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ومع الضربة الثالثة للصخرة صاح مكبرا: لقد أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا.
والشاهد من هذه القصة أن الله متم نوره ولو كره الكافرون، وأن هناك عطاءً ربانيا للسائرين على الدرب الذين يتحملون الصعاب الجسام، وهو ما يوقن به المسلمون لأهل غزة الذين تحملوا الجوع والحصار والدمار والنزوح المتكرر والمبيت بالعراء وفي خيام بدائية لا تقي من الحر أو البرد، وتفتقد للكهرباء والمياه والصرف.
ومن ضمن تلك البشريات: الصمود الأسطوري لأهل غزة، الذين تحملوا ما لا يتحمله بشر من متاعب جسدية ومعنوية، ما بين جوع ودمار وقتل، ووسط حرب نفسية ومضمون إعلامي غربي وعربي يتبنى السردية الإسرائيلية للأحداث، التي منها مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في خطابه يوم الأربعاء بالكونغرس: إن جيشه لم يقتل مدنيا، وكأن آلاف الأطفال والنساء الذين استشهدوا كانوا منخرطين بصفوف المقاومة!
وصول المُسيرات إلى تل أبيب
لكن أمورا عديدة تطمئنهم أن الفرج قادم رغم كل تلك المتاعب، أولها: الصمود الأسطوري للمقاومة رغم قلة عتادها وإمكاناتها وعددها وخذلناها، والتواطؤ ضدها من قبل كثير من الدول القريبة والبعيدة، بل إنها مستمرة في تكبيد العدو الخسائر في الأرواح والمعدات، ومستمرة في الاحتفاظ بعشرات الأسرى من الإسرائيليين رغم الجهد الاستخباراتي الإسرائيلي والأمريكي والبريطاني والأوروبي، بل والعربي لمحاولة الوصول لأماكنهم.
كذلك الواقع الذي تشير إليه الآية الكريمة: “إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ”، حيث أصاب الضرر المتعدد الجوانب العدو في قواته ومعداته واقتصاده بل وواقعه الاجتماعي، وأهدافه لاستقطاب هجرة اليهود بعد تحول اتجاه الهجرة إلى الخارج، ولعل لجوء العدو الإسرائيلي لإخفاء حقيقة خسائره خير دليل على كبر حجم تلك الخسائر التي جعلت الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله يتوقع مؤخرا عدم حدوث عدوان إسرائيلي على لبنان في الأجل القصير، بسبب نقص عدد القوات والتسليح لدى العدو.
وها هي قوات حزب الله في لبنان والحوثيون باليمن والمقاومة العراقية تساهم في توزيع الجهد العسكري الإسرائيلي على أكثر من جبهة، مما يخفف الضغط على المقاومة بغزة، وها هي مُسيرة الحوثيين التي دخلت تل أبيب مؤخرا وقتلت وأصابت أشخاصا بجوار مقر السفارة الأمريكية، تشير إلى إمكانية وصول الضرر العسكري للداخل الإسرائيلي، في نفس الوقت الذي ما زالت فيه مستوطنات غلاف غزة خالية من سكانها، ونفس الأمر لسكان شمال إسرائيل المتاخم للجنوب اللبناني.
وها هي الشعوب العربية والإسلامية المُحاصرة في بلادها بما يشبه حصار غزة، تسعى حسب المستطاع للمساهمة في مساندة غزة، من خلال مقاطعة سلع وخدمات الدول والشركات الدولية المساندة لإسرائيل إلى جانب محاولة توصيل أي قدر من التبرعات والدعاء المستمر لهم بالنصر، بعد أن أدركت بشكل عملي حقيقة أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وأنه لن يستطيع مجابهة اليهود الذين يحاربون من أجل عقيدتهم، سوى أُناس يحاربون من أجل عقيدتهم وأرضهم، وهو ما تفعله المقاومة في غزة ونجحت فيه إلى حد كبير.
ازدواجية المعايير الغربية تجاه الضحايا
ورغم الانحياز التاريخي الغربي لإسرائيلي طوال العقود الماضية، فقد غير العدوان الإسرائيلي على غزة بعض المواقف الدولية والجماهيرية، ما بين تزايد عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية رغم التحذير الإسرائيلي والأمريكي لها من ذلك، كما شهدت العديد من العواصم الغربية تظاهرات مؤيدة لغزة، رغم القمع البوليسي من قبل عدد من الدول الأوروبية لها، بل شارك بالتنديد بالمذابح الإسرائيلية قطاعات من اليهود ببعض الدول.
وها هي دول بأمريكا اللاتينية قد قطعت علاقتها بإسرائيل بسبب عدوانها على غزة، وعندما ينشر رئيس كولومبيا غوستاف بيترو -على صفحته بتويتر- صورا لأطفال شهداء بغزة، محذرا من نسيان أطفال الإبادة الجماعية في غزة، فقد سبقته مواقف جيدة من قبل جنوب إفريقيا حين توجهت لمحكمة العدل الدولية بشكوى ضد إسرائيل لارتكابها الإبادة الجماعية بفلسطين، ومواقف مساندة لفلسطين من جانب كل من تشيلي وبوليفيا وهندوراس وجامايكا والبهامس وبربادوس وترينداد وتوباغو، ومواقف جيدة من قبل النظم الحاكمة بإسبانيا وأيرلندا والنرويج والبرازيل.
فقد كانت مواقف بعض تلك الدول أرقى تجاه القضية الفلسطينية من مواقف دول عربية تحدث عنها نتنياهو أمام الكونغرس، وأسماهم “بشركائنا العرب”، ودعوة منه إلى إقامة تحالف بالشرق الأوسط معها لمواجهة إيران.
ومن نتائج طوفان الأقصى تبيان ازدواجية المعايير التي تمارسها الدول الغربية بالمقارنة لموقفها من حرب روسيا وأوكرانيا، وتبعية الموقف الأوروبي للموقف الأمريكي في الدعم لإسرائيل، ومدي ضعف تأثير المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة بتعطيل الفيتو الأمريكي لقرارات مجلس الأمن، وعدم إلزام قرارات الأمم المتحدة، حتى قرارات محكمة العدل الدولية لم تتم الاستجابة لها، وحتى وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) لم تسلم وهي ومنظمات إغاثة دولية من القصف ومقتل أعضائها، كذلك مقتل 169 صحفيا كانوا يقومون بعملهم لمتابعة حرب غزة.
لكن كل هذه الوقائع الدولية والمحلية لم تثنِ المقاومة وأهل غزة عن استمرار صمودهم ونضالهم وهو ما سوف يتبعه حتما حصاد الثمار لتلك التضحيات، مثلما حدث مسبقا مع كل الشعوب التي كافحت لتحرير بلادها من المحتل، ولن تكون غزة منزوعة السلاح كما طالب نتياهو أمام الكونغرس وسبقه بذلك قادة عرب، لأن خيار المقاومة أثبت أنه الخيار الوحيد لتحقيق آمال الفلسطينيين.