إنسانية محمد صلى الله عليه وسلم مع أول من أرضعته

الكعبة المشرفة (الأناضول)

تحدثنا في مقالات عدة هنا، عن أهمية تناول السيرة النبوية من عدة زوايا لم تخدم، سواء ما يتعلق بالجانب الإنساني والوجداني عند محمد صلى الله عليه وسلم، أو من حيث مقارنة بعض المساحات الصغيرة في السيرة، بذكر زوايا التناول المختلفة عند كثيرين، ونجدد الدعوة هنا إلى ما سبق، ونضيف عليه مساحة أخرى مهمة في السيرة النبوية، وهي: المساحات التي نظن عند تناولها أنها هامشية في السيرة، بينما حين تجمع هذه المساحات التي لا تتعدى أسطرا، تعطينا ملامح مهمة من عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وتعطي إشارات ربما لا تعطيها مساحات أخرى، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقصد بأن في حياته ما يعد هامشيا، بل نقصد بذلك المساحات التي نحسبها هامشية، وليست في صلب الحدث النبوي، ولكن عند التأمل الدقيق والمتبصر نكتشف من ورائها مساحات وزوايا هائلة، تزيد من وضوح ملامح النبوة، وعظمة هذا الرسول الكريم.

لقطة ظلت في الوجدان النبوي

ربما تكون هذه المساحة هي لقطة واحدة عابرة، يمر بها قارئ السيرة النبوية وتغيب عنه، لكنها لم تغادر عقل ووجدان محمد صلى الله عليه وسلم، بل ظلت مختزنة، وتستدعى في كل مناسبة تقترب من هذه اللحظة. ومن هذه اللحظات، لحظة ربما لا يتذكرها كل إنسان، وهي لقطة أول لبن دخل جوف هذا الرضيع من ثدي غير ثدي أمه التي ولدته، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ترضعه أمه سوى سبعة أيام، كما تذكر كتب السيرة، ويبدو أنها كانت مريضة بحمى النفاس، ثم أرضعته جارية لأبي لهب تسمى ثويبة، لم  ترضعه سوى عدة رضعات قليلة في عدة أيام، ومع ذلك تذكر في جل كتب السيرة ضمن مراضعه صلى الله عليه وسلم.

وهبته إخوة من الرضاع

هذه اللقطة التي لا تزيد على سطر واحد في كتب السيرة النبوية، لا تقف دلالاتها عند هذه اللحظة؛ مما جعل محمد حسين هيكل يقول عنها: “ومع أن ‌ثويبة لم ترضعه إلا أيّاما؛ فقد ظل يحفظ لها خير الودّ، ويصلها ما عاشت”. لم تكن ثويبة صاحبة فضل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرضاعه فقط، بل ضمت إلى ذلك أمرا آخر مهما، فقد كان يتيما وحيدا ليس له إخوة، فأضافت إليه ثويبة إخوة لم تلدهم أمه ولا أبوه، فقد أرضعت معه ابنها الذي شاركه في لبن أمه، وأرضعت عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة، فأضافت إليه ثلاثة إخوة، وهذا امتداد مهم للإنسان اليتيم والوحيد في الحياة، فعندما تضيق دائرة النسب، تتسع دوائر أخرى، وهذا من رحمة الله بالإنسان.

بشرت بولادته فنالت حريتها

وفي اعتراف النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه عمن أرضعته وهي جارية، فيه ملمح مهم تحدث عنه بعض شراح الحديث النبوي، فقال: وكانت العرب في أول أمرها تكره رضاع الإماء، وتقتصر على العربيات من الظئورة، طلبًا لنجابة الولد، فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قد رضع في غير العرب، وأن رضاعة الإماء لا تهجن.

كانت ثويبة هي أول من بشر بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم حين ولادته، وتروي كتب السنة والسيرة أنها نقلت البشارة إلى أبي لهب، فأعتقها فرحًا منه بميلاد ابن أخيه؛ وبذلك أعطاها أكبر جائزة يمكن منحها لإنسان، وهي: الحرية، وكان لهذا المشهد دلالة مهمة، إذ كان إيذانا بدور هذا النبي منذ صغره، في سعيه لإنهاء الرق، وعودة الناس إلى حريتهم.

وقد وردت روايات أخرى بأنها أعتقت، ولكن أبا لهب أخفى الأمر بعد ذلك بسبب خلافه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وروايات بأنه أعتقها فيما بعد، ولكن بين هذه الروايات والمساحة الزمنية، لم ينس محمد صلى الله عليه وسلم هذه السيدة التي أرضعته مرات معدودة، فكانت تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وقد تزوج خديجة، فتكرمها خديجة، وهي يومئذ أَمَة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة يبعث إليها بكسوة وصلة.

السؤال الدائم عنها والإحسان إليها

وقد طلب من خديجة رضي الله عنها شراءها من عمه أبي لهب، لكنه أبى ورفض. وداوم النبي صلى الله عليه وسلم على صلة هذه المرأة وإكرامها في مكة، والمدينة، وكان دائم السؤال عنها وعن أحوالها، رغم أن معظم الروايات تشير إلى أنها لم تسلم وظلت وولدها على الشرك، حتى جاءه خبر أنها قد توفيت سنة سبع، عند مرجعه من خيبر، فقال صلى الله عليه وسلم يسأل عن أهلها: ما فعل ابنها مسروح؟ فقيل: مات قبلها، فسأل عن قرابتها كي يصلهم، فقالوا له: لم يبق من قرابتها أحد.

واختلف في إسلامها، فهناك روايات تذكر أنها آمنت، وأخرى كثيرة تقول إنها لم تسلم، وربما أسلمت ولم يعلم أحد بإسلامها، لأنها ليست من الشخصيات المشهورة التي يهتم المدونون بخبرها، لكن على شهرة عدم إسلامها، بقي النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على برها وصلتها، وهي حية، والسعي لعتقها، ومنحها حريتها، ولما ماتت بحث عن أقاربها وإخوانه من الرضاعة من أبنائها، كي يصلها فيهم، وهو شعور رقيق ينم عن هذا السمو النبوي الكريم.

جارية تتسبب في تخفيف عذاب أبي لهب

تذكر كتب السنة والسيرة ملمحا آخر من حياة ثويبة، أن أبا لهب أعتقها، وسواء أعتقها وقت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم أم بعد ذلك، فالثابت أنه أعتقها، وأن الله عز وجل خفف عن أبي لهب العذاب بهذا العتق، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم، فقال له: ماذا لقيت؟ أو قال: وجدت؟ قال أبو لهب: لم ألق أو أجد بعدكم رخاء، أو قال: راحة، غير أني سقيت في هذه مني لعتقي ‌ثويبة، وأشار إلى النقرة التي تلي الإبهام والتي تليها، أي أنه يشرب من بين أصابعه ما يخفف عنه العذاب، بسبب عتقه ثويبة.

فهل خفف عنه لأجل إعتاقها، أم لأجل بشارتها برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس ذلك ما يعنينا، بل المهم هنا أن كل من كان له فضل أو موقف خير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طفلا أو كبيرا، نالته بركته ورحمته، ولو كان عدوا له كأبي لهب. وكيف أعلى الله شأن جارية لا ينظر إليها المجتمع هذه النظرة، يعلي شأنها ويكبرها ويحرص على ودها وصلتها طفل نال منها بضع رضعات، في عمر لا يذكر من ذلك شيئا، ولكنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا ينسى فضلا لأحد، ولا يضيع لديه معروف، كبر أم صغر.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان