عبقرية الانسحاب من المشهد السياسي!

الرئيس بايدن يلقي خطاب الانسحاب (غيتي)

من أهم تجليات الذكاء السياسي أن يتخذ الإنسان قرارا؛ قد يكون أشد مرارة على النفس من ضربة حسام على مفرق الرأس؛ لكنه يمكن أن يكون هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الدولة من الانهيار.

لو عاد الزمن بالكثير من قادة التاريخ؛ لتمنوا الانسحاب من المشهد، واتخاذ القرار بشجاعة في اللحظة المناسبة؛ قبل أن تحل الكارثة، لكن الحكمة تحتاج إلى شجاعة وقوة وبصيرة لا تتوفر للكثير من الذين وصلوا إلى الحكم في فترات صعبة.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

والقوة لا تتجلي فقط في الحكم، لكنها يمكن أن تظهر بوضوح في تركه في الوقت المناسب، فالشخص لا يصلح لكل زمن، وخبرته لا تتناسب مع كل التحديات. ولكي تنطلق الدولة فإنها تحتاج إلى عقليات جديدة تمتلك خيالا سياسيا واجتماعيا، وتستطيع أن تقدم أفكارا جديدة.

حاولت أن أقرأ قرار بايدن بالانسحاب من السباق الانتخابي بمنظور جديد؛ فالرجل كما يتضح من تاريخه لم يكن يوما زاهدا في الحكم؛ فهو ككل الحكام يعشق الحياة تحت الأضواء؛ ويدرك أن لذة الحكم والسيادة لا تدانيها لذة في هذه الدنيا، لذلك يتشبث بها كل من نالها، ويستخدم كل قوته للحفاظ عليها. فما الذي جعل بايدن يتخذ قراره الصعب؟

اعتقد أن بايدن لم يتخذ قراره بنفسه، ولكن من أهم مصادر القوة الأمريكية وجود مراكز بحوث في كل مؤسسات الدولة، وفي الجامعات، وهذه المراكز تقوم بدور مهم في الحكم واتخاذ القرارات، وهذه المراكز أدركت أن هذه أخطر انتخابات تمر بها أمريكا، وأنها لا يمكن أن تمر بدون كوارث يمكن أن تدفع أمريكا كلها نحو الانهيار. لذلك أقنعت بايدن بالانسحاب بهدف البحث عن حلول وأفكار جديدة.

مع ذلك يجب الاعتراف بشجاعة بايدن الذي استمع إلى صوت العلم، فهناك الكثير من الرؤساء يرفضون الاستماع إلى أي صوت لا يطرب آذانهم بالمديح الكاذب الزائف، ويجمعون حولهم المنافقين الذين يجيدون الرقص والتطبيل، ويتمسكون بالحكم وهم يرون مؤشرات الانهيار والسقوط.

لذلك فإن نزول بايدن على آراء مستشاريه الذين قرأوا المشهد، وأدركوا أنه ليس رجل المرحلة القادمة دليل على أنه يمتلك قدرا من الحكمة اكتسبها من سنوات طويلة في دوائر الحكم والسياسة.

مع ذلك يبدو أن الحل جاء متأخرا، وربما تكون فرصة البحث عن بدائل تحافظ على الدولة قد تلاشت، فكامالا هاريس لا تشكل بديلا مقنعا لملايين الشباب الذين يشعرون أن أمريكا فقدت القيم الليبرإلىة، وأن تعليمات الآباء المؤسسين تم تناسيها عندما أصبحت القوة الغاشمة هي الوسيلة لفرض السيطرة الأمريكية على العالم، وأن فرصة ترامب في العودة للبيت الأبيض تتزايد، وهو يمثل قوة حقيقية، ويعبر عن آمال الكثيرين في المجتمع الأمريكي.

الانتخابات فرصة للانسحاب!

لو عدنا لقراءة قرار بايدن من مناظير جديدة؛ فإن القرار يوضح أن الانتخابات تشكل فرصة تاريخية أمام أي رئيس للانسحاب من المشهد، وفتح المجال أمام قيادات جديدة لتتقدم لتحمل المسؤولية.

وكل من يمتلك خيالا سياسيا يدرك أن العالم يتعرض لعملية تغيير عميقة في كل المجالات، وأن هذه العملية تحمل الكثير من المخاطر التي تهدد بانهيار الكثير من الدول، كما أنها تحمل أيضا الكثير من الفرص لقيام دول بأدوار تاريخية وحضارية جديدة.. لذلك تحتاج كل الدول إلى قيادات جديدة تمتلك خيالا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا جديدا، وتفتح المجال لمناقشة حرة حول مستقبل الدولة.

من أهم المؤشرات على أن أمريكا في طريقها إلى الانهيار أن المجال العام قد أغلقته الرأسمالية، فلم تظهر خلال السنوات الماضية أفكار جديدة، حيث إن الانبهار بالتكنولوجيا الجديدة، والذكاء الاصطناعي، والشعور بأن الولايات المتحدة وصلت إلى قمة القوة والمجد التكنولوجي أدي إلى التقليل من قدرة الانسان على الابتكار والخيال والقيادة، لذلك ليس هنا بدائل سوي كامالا هاريس وترامب.

لكن هذه نتيجة التقدم التقني والصناعي والعسكري في الولايات المتحدة، وهي نتيجة مشابهة لما حققه التخلف والفقر والاستبداد وقهر الشعوب والسيطرة على الجامعات في دول الجنوب الفقيرة.

لذلك فإن إعادة الاعتبار للإنسان واحترام كرامته وتشجيعه على التفكير والعمل والقيادة أهم ما يمكن أن تنطلق به الدول لبناء مستقبلها، والدول تحتاج إلى الانتخابات لتختار قيادات جديدة تستثمر الثروة البشرية؛ فلا قيمة لتقدم إن لم يكن هدفه الانسان، ولا قيمة لدولة لا يكون أهم أهدافها تحقيق العدل، وحماية كرامة الانسان وعرضه وماله وحقه في الحياة والتفكير والعمل والبحث العلمي والابتكار.

قيادات جديدة للمستقبل

قرار بايدن بالانسحاب من المشهد جاء متأخرا، لكنه يمكن أن يفتح المجال للتفكير في المستقبل ويوضح أن الانسحاب من المشهد أفضل من التمسك بكرسي الحكم؛ حتى تنهار الدولة. فالمستقبل يحتاج إلى قيادات جديدة ترفض استخدام القوة الغاشمة في قهر الشعوب، وتعمل لتحقيق العدل، وتحترم حقوق الانسان وكرامته.

قرار بايدن المتأخر يمكن أن يفتح أمام الشعب الأمريكي المجال للبحث عن دور تاريخي جديد، وأن يقوم بمراجعة تاريخه، ويبحث لنفسه عن قيادات جديدة تستعيد أفكار الآباء المؤسسين.

كما أن كل قادة الدول يجب أن يفكروا في الانسحاب من المشهد قبل أن تنهار دولهم، فالتحديات القادمة تحتاج إلى قيادات جديدة لمواجهتها بالعدل وليس بالقوة.

 

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان