السياسة الأمريكية تجاه السودان.. رحمةُ باطنها التفكيك
في فبراير/شباط 2024، أعلنت الإدارة الأمريكية تعيين توم بيريلو مبعوثا للسودان، وفي الرابع والعشرين من يوليو/ تموز 2024، دعا وزير الخارجية أنتوني بلينكن طرفي الأزمة في السودان: الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى المشاركة في محادثات لوقف إطلاق النار، بوساطة أمريكية، تبدأ في الرابع عشر من أغسطس 2024 في سويسرا.
وقال بلينكن “إن المحادثات ستشارك فيها أطراف إقليمية ومنظمات دولية، وتهدف إلى تحقيق وقف العنف في جميع أنحاء السودان والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى من يحتاجون إليها، ووضع آلية مراقبة وتحقق قوية من أجل ضمان تنفيذ أي اتفاق”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsكان ناصرياً في زمن ما..!
في لبنان انقلب السحر على الساحر
ضجيج بالفناء الخلفي للبنان لا ينتظر نهاية الحرب
وأضاف: “حجم الموت والمعاناة والدمار في السودان بشع. يجب أن ينتهي هذا الصراع العبثي. على القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حضور المحادثات والتعامل معها بشكل بناء”.
السودان بين إرث بايدن
والضغوط الإنسانية
ومع هذه الخطوة، ذهب البعض للقول إنه مع اقتراب إدارة بايدن من نهاية ولايتها، ربما يبحث وفريقه عن تحقيق إنجاز أكبر في السياسة الخارجية، وقد يكون السودان ساحة مناسبة لذلك، وأن قرار بايدن الانسحاب من الحملة الانتخابية الرئاسية قد يساعد السودان، لأن تفكيره سينصب على إرثه السياسي، ومحاولة تحسينه.
ويبرر البعض هذه الوجهة من النظر بالقول إن هناك ضغوطاً متزايدة في الولايات المتحدة من بعض أعضاء الكونغرس ووسائل الإعلام ومنظمات الإغاثة الإنسانية وجماعات حقوق الإنسان لكي تصبح واشنطن أكثر نشاطا في إنهاء الصراع الكارثي في السودان، وخاصة بعد أن كانت الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب في غزة هما محور الاهتمام الأمريكي خلال العامين الأخيرين، على حساب الوضع في العديد من الملفات، من بينها الوضع في السودان.
حديث التناقضات
في السياسة الأمريكية!
التصورات السائدة لدى قطاعات من المحللين المهتمين بالشأن الأمريكي عامة، والسوداني خاصة، والتي تقوم على أن السياسة الأمريكية تجاه السودان مليئة بالتضارب والتناقض، أو أنها تتفاوت بين “الشعور بالذنب” و”الشعور بالتيه” و”الميل نحو التجاهل للسودان بشكل كامل”، هي تصورات تفتقد الرؤية الدقيقة حول السياسة الأمريكية تجاه السودان.
وهذه السياسة ليست وليدة اليوم، ولكن منذ بداية التحرك الأمريكي نحو المشرق العربي في منتصف القرن التاسع عشر تحت مظلة البعثات التبشيرية، ثم تحت مظلة شركات النفط والتنقيب عن المعادن، ثم بعد ذلك تحت مظلة بناء الهيمنة الأمريكية على مخلفات الإمبراطورية البريطانية والتي كانت مصر والسودان أهم ركائزها في القارة الإفريقية، منذ الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، ومنها تمدد للسودان وباقي دول حوض النيل.
القلوب الرحيمة في أمريكا تنفطر
على ما يحدث في السودان!
عندما يقوم أعضاء من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس بتمرير قرار يدين الانتهاكات في دارفور، ويصفها بأنها إبادة جماعية، ويطالب الإدارة الأمريكية بتخصيص أموال لدعم الوضع الإنساني، ويتم تعيين مبعوث خاص للسودان، وتشارك مسؤولة الشؤون الإفريقية في الخارجية الأمريكية “مولى فاى” في اجتماعات الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا وتبحث عن مسار جديد لإنقاذ عمليات التفاوض التي فشلت جميعها.
كل هذا ليس من باب انفطار القلوب الرحيمة في الولايات المتحدة على المأساة في السودان التي راح ضحيتها عشرات الآلاف بين قتيل ومصاب ومفقود، بعد مرور نحو 16 شهرًا، منذ تمرد قوات الدعم السريع على الجيش السوداني في الخامس عشر من أبريل/ نيسان 2023، كما كانت هذه المواجهات العسكرية سبباً في نزوح أكثر من 10 ملايين مواطن سوداني خارج أراضيهم، ولجوء نحو ثلاثة ملايين آخرين إلى دول الجوار السوداني.
كل هذا ليس من باب السعي نحو تحسين صورة بايدن وإدارته، ولا لأنه لن ينام قرير العين بسبب المجاعة التي تعصف بالملايين من السودانيين، وعمليات التطهير والإبادة التي تمارسها قوات الدعم السريع والمليشيات المسلحة وجماعات المرتزقة التي تدور في فلكها، ولكن الدقيق هو أن ما تقوم به الإدارة الأمريكية، هو نهج ثابت في سياساتها لأكثر من عشرة عقود خلت.
هذا النهج القائم على التدمير الذاتي للقدرات، من خلال ترك المجال للأطراف الداخلية لتوسيع دائرة الصراع، وتعزيز محفزات هذا الصراع، عبر وكلاء إقليميين أو شركاء من خارج الإقليم، كما حدث من قبل في سوريا وليبيا بعد العام 2011.
المصلحة ثم المصلحة ثم المصلحة
إن القول بأن الولايات المتحدة، مازالت عديمة القدرة على التأثير، ومحدودة الفائدة، في ظل العديد من الاعتبارات التي تحكم الدور الأمريكي في الأزمة السودانية، أو أنها تفتقد أوراق الضغط الكافية على الجيش السوداني الذي يتسلح من دول تعتبر عدوة لها، مثل روسيا وإيران والصين.
وأنه لا توجد خريطة طريق ولا خطة عمل واضحة للإدارة الأمريكية. وأنها تستمع إلى أفراد وكيانات تحصل منها على معلومات يشوبها الكثير من غياب الدقة، وتنحصر في زوايا تخدم مصالح المجموعات المقربة من الإدارة الأمريكية داخل السودان أكثر من حماية مصالح الولايات المتحدة في السودان وبطبيعة الحال، أكثر من مصالح السودان وشعبه.
كل هذه الأحاديث، أحاديث تضليل، فالولايات المتحدة لا تعدم الوسائل، ولا تعدم القدرة على التأثير في الملف السوداني، ولكنها تجعل من السودان مستنقعاً لتدمير قدرات الجميع، والقضاء على ما تبقى من وحدة سودانية.
لقد قام الكونغرس الأمريكي بسن قانون سلام السودان (قانون اتحادي برعاية توماس تانكريدو يدين السودان على ما أسماه الإبادة الجماعية، وقعه الرئيس جورج دبليو بوش في 21 من أكتوبر/ تشرين الأول 2002) وكأن السودان شأن داخلي أمريكي، ينتظر تشريعاته من الكونجرس الأمريكي، ثم لاحقت الإدارات الأمريكية الرئيس السابق عمر البشير أمام القضاء الدولي، وصنفت السودان ضمن الدول الراعية، وفرضت على الجميع تقسيم السودان عام 2011، إلى شمال وجنوب.
وبعد الإطاحة بالبشير، عام 2019، فرضت إدارة ترامب على السودان التطبيع مع الكيان الصهيوني، تحت مبرر رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والموافقة على تمرير المساعدات للنظام الانقلابي الجديد.
هذه الإدارات التي فعلت كل هذا، على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ليست عاجزة عن فرض التسوية في السودان، وليست عاجزة عن إجبار الأطراف الإقليمية التي تتدخل في الشأن السوداني على وقف تدخلاتها.
كما أنها ليست عاجزة عن تبني سياسات مضادة لتمدد الصين وروسيا ولهما علاقات متداخلة مع طرفي النزاع، وخاصة في ملفات التسليح وتصدير الذهب واستخراج النفط، والتأسيس للقواعد العسكرية لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب.
فالولايات المتحدة تملك الكثير للقيام به، ولكن يبقى السؤال: لماذا لا يكون كل ما يحدث في السودان يتوافق مع المخططات والسياسات الأمريكية التي تستهدف تدمير وتفكيك ما تبقى من السودان؟
أدوات محلية وظيفية لأجندات خارجية
إقليمية ودولية
لقد أصبح السودان مسرحاً للتنافس الإقليمي والدولي، وصارت الأطراف الداخلية السودانية، أقرب ما يكون إلى أدوات وظيفية، تحركها أجندات الأطراف الفاعلة، سواء من الإقليم أو تلك المتصارعة على قمة النظام الدولي.
وأصبحت القضايا الرئيسية في الصراع المستمر في السودان، والذي يمثل جوهر الأزمة الراهنة، مجرد حلقة من حلقاته، تتعلق بالحفاظ على ما تبقى من الدولة والتصدي لمخططات التفكيك والتدمير الممنهج التي يتم العمل عليها منذ انفصال السودان عن مصر في العام 1956، وكانت حلقة من حلقات هذا التفكيك عام 2011، عندما انفصل الجنوب السوداني، وشكل دولة مستقلة ما زالت هشة بل وفاشلة رغم مرور نحو 13 عاماً على انفصالها.
إن الرهان على مواجهة هذه المخططات، ومن يقف خلفها، تخطيطاً وتمويلاً وتحريكاً، يبقى على الشعب السوداني ونخبه الواعية، المؤمنة بوحدة الشعب والأرض، والقادرة على حماية مقدراته، في إطار من وضوح الرؤية وفاعلية الحركة.