هل تفعلها كامالا هاريس؟!

كامالا هاريس (الفرنسية)

أثناء إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية وفوز الحزب الديمقراطي برئاسة الولايات المتحدة بفوز مرشحه جو بايدن ونائبته كامالا هاريس التقطت كاميرات الشاشات صورة لكامالا تظهرها في شكل المذهول بالنتيجة، وبفرحة هستيرية عبرت عنها ببضع كلمات وجهتها إلى بايدن قائلة: “لقد فعلناها يا جو”. وما زلت أذكر كيف بدا ردّها “غير المصدق” وكأنها -هي نفسها- كانت تشعر بأنهم أقل من أن يفعلوها، لكن لاعتبارات كثيرة تم الأمر وفشل دونالد ترامب في الحصول على فرصة أخرى.

وهذه المرة تسير الأمور على غير هوى الحزب الديمقراطي، فيضطر لأسباب بعضها مبهم إلى ما يشبه “الإيقاف” المتعمد لمرشحه الذي أخفق في مواجهة ترامب في أول مواجهة إعلامية جماهيرية، كما أخفق في العديد من الملفات الداخلية التي أثرت بشكل مباشر في المستوى المعيشي للمواطن الأمريكي، فيضطر بايدن كذلك إلى قبول ذلك الإيقاف الجبري، لكنه يفجر قنبلة خلفه قبل الاختفاء وهو إعلان ترشيح نائبته لتمثل حزبه في مواجهة الحزب الجمهوري بقيادة ترامب. فهل كان يدرك حين أعلنها مرشحة رئاسية أنها غير قادرة على تلك المواجهة وهو بذلك يورط حزبه ويعاقبه بصورة ما بسبب التعاطي المهين معه في نهاية فترة حكمه الأولى لتكون الأخيرة؟ أم أنه كان يرى فيها ما لم يره آخرون من قدرات لا يعلمها سواه، فوجدها هي الأنسب في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حرب غيرت خريطة العالم وتوجهاته السياسية، وكسرت حواجز لم تكسر من قبل، وغيرت مفاهيمَ فرضتها الشعوب -ومنها الشعب الأمريكي- لأول مرة منذ إنشاء الكيان المحتل على الأراضي الفلسطينية؟

حجر في مياه مائجة

عدة تصريحات استغلها الرئيس الأمريكي السابق ترامب ضد منافسته الجديدة في محاولة لاستقطاب اللوبي الصهيوني حول موقفها من الحرب وكراهيتها لليهود وعداوتها للسامية، على حد قوله.

والحقيقة أن موقف كامالا من الحرب هو نفس موقف ترامب، فقد صرح -هو نفسه- في أكثر من مناسبة بوجوب توقف تلك الحرب ولو بمضاعفة دعم الإدارة الأمريكية للكيان لينهي المسألة بشكل أسرع قبل أن تشتعل المنطقة وتجر العالم إلى حرب عالمية يهلك فيها ملايين البشر وتخرج عن السيطرة الأمريكية. فمسألة إيقاف الحرب الدائرة لا يختلف فيها الطرفان إذن. نعم قد يختلفان على وسيلة إيقافها، لكن المبدأ واحد وهو التهدئة العالمية قبل إطلاق الرصاصة الأولى في حرب لن يستفيد منها أحد سوى مصانع إنتاج السلاح وسماسرته، علاوة على أن استخدام ترامب ذلك السلاح قد كان مجديا ومؤثرا كبيرا فيما مضي، أما اليوم وبعد حرب السابع من أكتوبر 2023 فقد أصبح من الصعب استخدام ذلك السلاح في النيل من المنافسين في الانتخابات الأمريكية، وذلك لاعتبارين أساسيين سوف ينتبه لهما المتابع، إن لم يكن قد انتبه لهما بالفعل:

الاعتبار الأول: هو توقيت التصريح، فربما لو جاء إبداء كامالا بعض التعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم، واستيائها من قتل المدنيين بتلك الفجاجة، قبل حرب طوفان الأقصى، لاعتُبر جريمة وسقطة سياسية كبرى في حقها، فالاقتراب من دائرة العداء للسامية كان يعتبر بمثابة المشنقة التي تقتل صاحبها سياسيا في الولايات المتحدة، بل ونذير شؤم لأي حزب يظهرها ولو من باب التجمل الإنساني أو ادعاء الفضيلة أمام العالم لتستمر أمريكا في تبوّؤ مكانتها كحكم عالمي وقاض (غير نزيه).

لكن ترامب يحاول اللعب بقوانين قديمة في ملعب جديد متجاوزا المشهد الذي فرضته المقاومة التي صمدت مدة عشرة أشهر كاملة وما زالت مستمرة في حرب ضروس ليست ضد إسرائيل وحدها، وإنما ضد الدعم الأمريكي الأوروبي الكامل في مقابل جيش غير نظامي وفي ظل دعاية عالمية مسبقة لعشرات من السنوات زيفت الحقيقة كاملة عن الجيش الذي لا يقهر، والدولة الديمقراطية الراعية للعدالة، والمجتمع المتماسك، لتظهر حقيقة بيت العنكبوت على يد مقاومة محاصرة، وتسمع الشعوب الأمريكية والأوروبية رواية أخرى للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وتخرج الشعوب الغربية كذلك للمرة الأولى منذ بداية الاحتلال، ويخرج طلاب العالم لكسر حاجز السامية وكراهيتها ومعاداتها، وتصير تلك المصطلحات من الماضي ويمكن تداولها دون خوف من اتهامات وملاحقات، وليلقي ترامب حجرا في مياه غاضبة مائجة فيفقد تأثيره تماما، ليعطي أملا ولو كان ضئيلا للحزب الديمقراطي في احتمال فوز كامالا خاصة أنه في السياسة لا شيء مستحيل، والناخب الأمريكي لا يحدد موقفه غالبا بشكل نهائي إلا في اللحظات الأخيرة.

اهتمامات الناخب الأمريكي ليست القضية الفلسطينية

وأما الاعتبار الثاني فهو أن  للناخب الأمريكي اهتمامات غير تلك التي نقيم بها المتقدمين للرئاسة الأمريكية، فهي ليست بالتأكيد السياسة الخارجية اتجاه الشرق الأوسط، وليست نظرته إلى المصالح الإسرائيلية في المنطقة -إلا ما يسمى باللوبي اليهودي المؤثر اقتصاديا في توجيه سياسة الولايات المتحدة واختيار حكامها بنسبة ما- وليس من اهتمامات الناخب دعم هذا المرشح لطرف دون طرف في منطقة لا تعنيه من قريب أو من بعيد إلا القلة منهم المهتمة بالشأن السياسي.

إن الولايات المتحدة قد تعرضت للعديد من الأزمات الداخلية المتعلقة بالاقتصاد ومستوى دخل الفرد ومعيشته ومشاكل التضخم التي وصلت إلى أعلى نسب لها منذ ثمانينيات القرن الماضي، فحسب موقع الأناضول في يونيو/حزيران الماضي، فإنه “في ولاية بايدن رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة على الأموال الاتحادية إلى أعلى مستوى لها منذ 23 عاما عند نطاق 5.25 – 5.5 بالمئة، هذا إضافة إلى العديد من المشكلات اليومية التي يلاقيها المواطن الأمريكي وفي انتظار حلول لها”، إما بتغيير الرئيس برئيس ينتمي لحزب آخر، أو بتصديق نفس الحزب إذا قام بتغيير سياساته، وفي الأيام المعدودة المقبلة ينتظر الناخب ليقيم الخطابات الدعائية ليحدد مواقفه التي لن يكون من بينها الموقف من الحرب القائمة بالشرق الأوسط بشكل أساسي.

هل يمكن أن تفعلها كامالا هاريس

وأما بالنسبة لنتائج الانتخابات الأمريكية فسوف يؤثر في عملية التصويت بها عاملان:

الأول: هو خطاب كامالا هاريس وقدرتها على إقناع الناخب بالحلول العملية لمشاكله الاقتصادية في عالم يعج بالمتغيرات السياسية ومهدد بالحروب العالمية، وفي وقت ينشط فيه المعسكر الشرقي الذي يشمل روسيا والصين وإيران وأخيرا تركيا استعدادا لأمر بدأ يتكشف مؤخرا في تغيير الخريطة السياسية عالميا، وربما يكون منه تعطيل المؤسسات والهيئات العالمية التي أنشِئت بعد الحرب العالمية الثانية وفقدت صلاحيتها في إدارة العالم اليوم؛ فعلى كامالا أن تقدم -بوصفها مرشحة أمريكية وليست زعيمة عالمية- خطابا مطمئنا وتعاطيا قويا يخرج أمريكا من خطر الحروب النووية ونزع فتيل الحرب التي توشك أن تشتعل، خاصة أن أداءها نائبةً لم يكن على المستوى المطلوب، ويمكن أن يوصف في عالم الإدارة بأنه أداء فاشل خاصة في ملف اللجوء والهجرة، وعليها إن أرادت الفوز بمقعد الرئاسة أن تستعين بفريق قوي للوقوف أمام منافس مراوغ وعنصري؛ ليتصدى للاتهامات العنيفة التي سوف تتلقاها في الأيام المقبلة بكثافة وربما تكون غير أخلاقية كاستغلال لونها وأصلها الإفريقي وجنسها النسوي.

الثاني: هو أداء ترامب نفسه وطبيعة خطابه الموجه إلى الشعب الأمريكي، فطبيعة الانتخابات هذه المرة تأتي في ظروف عالمية مختلفة ومنذرة بالدمار كما قلنا سلفا، وربما يستشعر الناخب الأمريكي الخطر في وجود دونالد ترامب الذي يميل بطبيعته إلى العنف والحدة؛ فيتوجه بصوته إلى الطرف الأقل حدة والأميل إلى صنع السلام أو على الأقل تأجيل الحرب عدة سنوات أخرى، فإذا استمر ترامب في هذه النوعية العنيفة من خطاباته، فسوف يصب ذلك في النهاية لصالح الديمقراطيين لتكون دعايته عكسية من حيث لا يدري، هذا بالطبع إذا وضعنا في الاعتبار تهديده المستمر بالحرب الأهلية، والانقسام، ووضع سيناريو عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات إن لم يفز بها بدعوى تزويرها مسبقا.

وخلاصة القول أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بنتائج الانتخابات الأمريكية المقررة في الخامس من نوفمبر المقبل حتى تظهر النتائج بالفعل، ولا يمكن أن نبني استنتاجات على ضعف كامالا وقوة ترامب، فكلاهما يحمل نقاط ضعف ونقاط قوة، وتبقى الكلمة لأولئك المتابعين في صمت حتى يقولوا كلمتهم في صندوق انتخابات سوف يلزم الجميع في نهاية الأمر مهما بلغت تهديدات ترامب، كلاهما يمكن أن يفعلها بنفس النسبة وإن كان ظاهر الأمر شيء آخر.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان