التداعيات الإستراتيجية لاغتيال إسماعيل هنية
في يونيو/حزيران عام 1914 اغتيل ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر، الأرشيدوق فرانز فرديناند وزوجته صوفي، ما أدى إلى اندلاع الجرب العالمية الأولى، التي أفضت إلى نتائج إستراتيجية لا تزال ممتدة حتى اليوم.
واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، يندرج تحت هذا البند من الاغتيالات التي تترك في مجرى التاريخ أثرا يدوم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتونس.. أن تصنع الوحش وتنتظر رحمته
هل أخطأ شيخ الأزهر حين قال: المفاضلة بين الأديان متروك لله؟!
ماذا لو فازت كامالا هاريس؟
فالظروف المصاحبة لاغتيال هنية، زمانيا ومكانيا، تجعل من الحدث منعطفا مهما، ولحظة تحول مؤثرة.
فمن حيث الزمان فإن الاغتيال يأتي في ظل حرب فلسطينية إسرائيلية غير مسبوقة في تاريخ الصراع، ومرشحة بقوة للتحول إلى حرب إقليمية ذات نطاق واسع.
كما جاء الاغتيال بعد ساعات قليلة، من استهداف القائد البارز في الجناح العسكري لحزب الله، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية لبيروت.
أما المكان، فاغتيال هنية في طهران، حيث كان يشارك في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب حديثا، مسعود بزشكيان، يعني أن الضربة طالت بنفس القوة إيران بأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، تذكيرا بأن مسرح العمليات في تلك الليلة كان ممتدا على رقعة واسعة، من بيروت إلى طهران مرورا ببابل العراقية التي شهدت في نفس التوقيت قصفا لمجموعات مسلحة مرتبطة بإيران.
حرب غزة.. تحول أو انكسار
تشير بعض التقديرات إلى أن إسرائيل قد تعد اغتيال هنية نقطة النهاية لحربها في غزة، وتسوقه باعتباره انتصارا مهما مؤذنا بانتهاء العمليات العسكرية في القطاع دون اتفاق مع الطرف الفلسطيني..
لكنه وبالنظر إلى ما سبق وأعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أهداف لحرب غزة، فإن الاغتيال قد يكون بالنسبة له محطة مهمة في طريق تحقيق تلك الأهداف، لكن دون إنهاء العمليات في الوقت الراهن.
وضعا في الاعتبار أن إسرائيل لم تعلن – حتى اللحظة – مسؤوليتها عن الاغتيال، وقد تتريث في الإعلان عنها فترة من الزمن، كما جرت العادة في حوادث مماثلة.
على الجانب المقابل فإن اغتيال هنية، قد يمثل نقطة تحول لدى المقاومة، إما إلى تصعيد العمل العسكري، أو إلى قبول شروط الهدنة كما يريدها الجانب الإسرائيلي.
ففصائل المقاومة داخل القطاع، تعيش أوضاعا صعبة لا يمكن إغفالها، في ظل حصار مطبق منع عنها الإمدادات اللوجستية الضرورية لاستمرار العمليات العسكرية، مع وجود رغبة من بعض دول الإقليم في القضاء عليها تمهيدا لحركة تطبيع واسعة تعيد ترتيب الإقليم.
أيضا لا يمكن إغفال الضغط النفسي الذي تعيشه المقاومة مع استمرار المجازر الإسرائيلية المتعمدة ضد المدنيين خاصة النساء والأطفال، تزامنا مع تفاقم الأوضاع الإنسانية، وذلك لإجبار الحاضنة الشعبية للمقاومة على دفع فاتورة باهظة التكاليف، ما يدفعها في النهاية إلى التخلي عن المقاومة فكرا وسلوكا، استعدادا لمرحلة إعادة التشكيل الفكري والقيمي للقطاع فيما يعرف بسياسات “اليوم التالي للحرب”.
من هنا فإن لكلا الخيارين كلفته سواء قبلت المقاومة بإيقاف الحرب وفق الإملاءات الإسرائيلية، أو استمرارها، واغتيال هنية سيلعب دورا مؤثرا في تحديد هذا الخيار والعمل عليه.
إيران.. الهيبة المفقودة
ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها إيران لمثل هذه الهجمات داخل أراضيها، ففي نوفمبر/ تشرين الأول عام 2020 اغتيل العالم النووي الإيراني فخري زاده، في طهران، وفي إبريل/نيسان 2021 تعرض مفاعل نطنز النووي لتخريب إليكتروني، وفي الحادثتين حملت إيران إسرائيل المسؤولية، دون رد مقنع ومناسب.
والآن يأتي اغتيال هنية في طهران، ليعمق جراج إيران الاستخباراتية والأمنية، ويضرب من جديد هيبتها وقدراتها أمام العالم، ويظهرها بمظهر العاجز عن حماية ضيف مهم مثل هنية.
ليس هذا وفقط، بل قد تعيد عملية الاغتيال فتح النقاش مجددا بشأن مصرع رئيس الجمهورية السابق إبراهيم رئيسي ومرافقيه في حادث سقوط مروحية في مايو/آيار الماضي، الذي نسبت أسبابه حينها للعوامل الجوية السيئة!
فاغتيال هنية يؤشر إلى عملية استخباراتية عسكرية، نجحت في اختراق الدائرة الضيقة للأجهزة الأمنية الإيرانية وخاصة الحرس الثوري، وتحديد موقع الهدف بدقة، ثم استهدافه أثناء نومه دون أدنى مشاكل أو مضايقات.
ومن هنا فإن البدائل المتاحة أمام متخذي القرار في طهران ضيقة للغاية، فأي تسويف في الرد سيهز صورة إيران بشدة خاصة أمام حلفائها قبل بقية دول العالم.
فطهران مطالبة بتقديم أجوبة كافية وضافية لحماس عن أسئلة بديهية وضرورية بشأن عملية الاغتيال وكيفية وصول الجهة المنفذة إلى هنية بهذه السهولة.
لذا فمن الصعوبة بمكان تمرير إيران للحادث واحتفاظها بحق الرد لاحقا، كما فعلت في اغتيال العالم فخري زادة.
أيضا لا يمكن لدولة تطمح إلى لعب أدوار مؤثرة إقليميا ودوليا القبول باستباحة أراضيها واغتيال ضيوفها الرسميين بهذا الشكل..
لكن هل يمكن لإيران الرد دون الدخول في حرب إقليمية شاملة؟ واقعيا لا يمكن تصور الرد المناسب وفصله عن سيناريو توسع الحرب، وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم.
فالطبيعي أن يقود اغتيال هنية، وشكر أيضا، إلى مواجهات مفتوحة وقاسية خاصة على الجبهة اللبنانية، ما يعني فعليا اتساع نطاق الحرب إقليميا، كما أراده وخطط له منذ البداية يحيى السنوار، ويعمل من أجله نتنياهو الآن.
الحرب الإقليمية
السيناريو الأقرب الآن، هو خروج المواجهات من نطاقها الحالي إلى مستوى جديد من الحرب الواسعة والشاملة في الإقليم.
هذه الحرب لن تكون نزهة، فعملية طوفان الأقصى، والمواجهات المستمرة منذ حوالي عشرة أشهر في قطاع غزة، أصابت نظرية الردع الإسرائيلية – التي أُسست في يونيو 1967 – في مقتل.
كما أن الجيش الإسرائيلي يعاني إنهاكا واضحا لا يمكن إغفاله، وتعاني الجبهة الداخلية الإسرائيلية من انقسامات مجتمعية عميقة، بلغت ذروتها في أحداث “سديه تيمان” و “بيت ليد” خلال الأيام الماضية.
لهذا قد يريد نتنياهو رأب تلك الصدوع من خلال توسيع نطاق الحرب، وهذه مغامرة إستراتيجية محفوفة بالمخاطر نظرا للتداعيات المتوقعة على جميع الأصعدة.
رهان تل أبيب الأساسي سيكون على الدعم الأمريكي غير المحدود، خاصة مع تأكيد وزير الدفاع لويد أوستن، عقب اغتيال شكر مباشرة على التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن إسرائيل.
ومع تورط الولايات المتحدة، ستكون الفرصة سانحة أمام روسيا والصين لإنهاك خصمهما اللدود، وإدخاله مستنقع جديد في الشرق الأوسط، يوفر عليهما تكاليف متوقعة في مناطق صراع أخرى في العالم.
وفي الخلاصة فإن اغتيال هنية وشكر، وضع المنطقة بأسرها على عتبة حرب إقليمية واسعة، إلا إذا قررت إيران الاحتفاظ بحق الرد.