هنيئا هنية
ليس انتصارًا يمكن للصهاينة التشدق بانتزاعه، وليس مجدًا بوسعهم احتساء نخبه، بل هو عمل خسيس جبان، يضاف إلى سلسلة أعمالهم الإجرامية القذرة، وإلى قائمة جرائمهم الإرهابية.
وليس اغتيال إسماعيل هنية هزيمة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل هو انتصار جديد يُحسب في تاريخها، ويضاف إلى سجل قادتها الذين أثبتوا منذ الشيخ أحمد ياسين مرورًا بالرنتيسي، وغيرهما من القادة العسكريين والسياسيين، أنهم جزء أصيل من المقاومة، يصطفون في صفوف المواجهة مع أبناء الشعب الفلسطيني على السواء، وليسوا كما يطنطن “المتصهينون العرب” يعيشون في الفنادق ينعمون بالأمن والسلام ورغد العيش.
اقرأ أيضا
list of 4 items«اسرقوهم يرحمكم الله».. فتوى من أستاذ أزهري انتحاري!
حرب أمريكا وإسرائيل ضد السنوار
عندما تصبح الحرب هي الهدف
عملية الاغتيال التي لم تعترف تل أبيب رسميًّا بها، بل اكتفت بتلميح أقرب إلى التصريح بحثًا عن “لقطة” أمام قواعدها الشعبية المتطرفة، وسعيًا إلى تجميل صورة الهزيمة المذلة التي تتخبط فيها منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى، لا تحمل جديدًا ولا تثير دهشة.
على طريقة اللصوص في الأزقة، وكما يسددون طعنتهم في ظهر ضحاياهم بغتةً وخيانةً وجبنًا، انطلق صاروخ من دولة أجنبية ما، فاستهدف مقر هنية الذي كان يقيم في أحد مباني الحرس الثوري الإيراني، فاستشهد الرجل الذي قدَّم قبل نحو شهرين أبناءه شهداء، ووقف بعدئذٍ صابرًا محتسبًا، إلى السماء ليلحق بفلذات كبده.
طبيعي أن تتشدق إسرائيل بالجريمة النكراء، فالقاتل المتسلسل ينتشي كلما سفك الدماء، ومنطقي أن يقول مجرم الحرب نتنياهو إن اغتيال قادة حماس “يقربنا من النصر”، فدولة الاحتلال تريد ستر عورة هزائمها أمام جماهيرها، لكن هذا كلام ثبت تهافته، إذ بددته الوقائع التاريخية على الأرض، فكلما استشهد قيادي من المقاومة، امتشق السيف والراية قيادي آخر، ليستخلفه في مسيرة النضال، حتى ينال الشهادة بدوره.
يقول قادة المقاومة دائمًا إنهم مشاريع شهداء، وتأبى إسرائيل إلا أن تؤكد هذه المقولة، وكلما اغتالت واحدًا منهم انتصرت المقاومة أخلاقيًّا ومعنويًّا، في الداخل الفلسطيني الذي أظهر استطلاع رأي أخيرًا أن نحو ثلثي سكان غزة والضفة الغربية يؤيدون حماس، وأمام الرأي العام الدولي الذي لم يكن في أي مرحلة تاريخية مؤيدًا للحقوق الفلسطينية كما هو اليوم.
يقول شاعرنا أحمد شوقي “خُلقنا للحياة وللمماتِ .. ومن هذين كل الحادثاتِ”، هذه حقيقة تؤكدها المقاومة من القمة إلى القاعدة، فالموت ليس حادثة منبتّة الصلة عن السياق، بل إنه قد يكون حياة جديدة للفكرة.
حين اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، لمّا كان متوجهًا لصلاة الفجر قعيدًا على كرسيه المتحرك، قالت أيضًا إنها وجهت الضربة القاضية للمقاومة، لكن منذ استشهاد الرجل قبل عشرين عامًا، لم تتراجع المقاومة قيد أنملة إلى الوراء، ولم تخبُ جذوتها المباركة.
كذلك لن يهدم استشهاد هنية البناء، ولن ينتزع أفكار المقاومة من وجدان الشباب الفلسطيني، ممن تربوا على عقيدة الاستشهاد واسترخاص الحياة الدنيا في مقابل انتزاع حقوقهم من الاحتلال.
تداعيات سياسية خطيرة
التداعيات السياسية للعملية الخسيسة ليس واردًا حصرها في الوقت الراهن، بينما دم الشهيد لم يجف بعد، لكن المؤكد أن وقوع الجريمة في قلب العاصمة طهران يمثل تحرشًا مباشرًا بالدولة الإيرانية خاصة بعد مشاركة الشهيد في حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي شدد في أول تصريح بعد الجريمة على أن بلاده ستجعل المحتلين والإرهابيين يندمون على عملهم الجبان.
الرئيس الإيراني في اختبار صعب أمام شعبه، وليس بوسعه أن يُسلّم ورقة الإجابة فارغة.
واقعيًّا، يحاول نتنياهو وزمرته من حكومة مجرمي الحرب استدراج المنطقة إلى فوهة بركان، وقد مارست طهران ضبط النفس مرارًا، لكن الأرجح أن هذا لن يكون سهلًا بعد استشهاد هنية على أرض عاصمتها، خاصة بعد تأكيدات المرشد الأعلى خامنئي أن على إيران أن تقتص من المجرمين، والسعي لانتزاع الثأر لهنية الذي وصفه مرارًا بالصديق الوفي.
ولم يتردد الحرس الثوري الإيراني الذي يَعُد السكوت على الجريمة انتقاصًا كبيرًا من هيبته الإقليمية عن التأكيد أن الرد سيكون قاسيًا وموجعًا.
الأيام حبلى بكل ما هو خطير، ومع استشهاد إسماعيل هنية، بعد اغتيال القيادي بحزب الله فؤاد شكر بساعات، لن تمتلك مقاومة إسرائيل رفاهية ضبط النفس، وإنَّ رغبة نتنياهو في توسيع كرة اللهب، تبدو رغبة نيرونية محمومة، لإحراق الأرض وما عليها، وأغلب الظن أن إسرائيل لن تكون بمنأى عن الحرائق بطريقة أو بأخرى.
لكن بعيدًا عن التداعيات المتوقعة أو قل المؤكدة، وبمنأى عن أن المنطقة ستشهد في ما يتبقى من الصيف موسمًا سياسيًّا وعسكريًّا هو الأكثر سخونة منذ عقود، تتبقى الدروس المعنوية والأخلاقية من استشهاد هنية دروسًا مركزية وتأسيسية لمسيرة المقاومة الإسلامية.
قيل كثيرًا إن قادة حماس يزجون بالشعب الفلسطيني في أتون النيران، وهم بمنأى عن ألسنة اللهب، ومضى عرب ضمائرهم عبرية وقلوبهم صهيونية الهوى، يرددون هذه الأكاذيب، رغم الشواهد على الأرض أن قادة المقاومة ليسوا كغيرهم من أصحاب المليارات المكدسة في بنوك سويسرا، ولا يملكون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، بل يعيشون تحت وطأة التهديد دائمًا، وهم يعلمون أن عدوهم خسيس جبان، لا يتورع عن اقتراف أكثر الجرائم انحطاطًا.
سقوط أراجيف الصهاينة
اغتيال هنية ينفي أراجيف الصهاينة وشيعتهم، ويؤكد أن المقاومة من القمة إلى أصغر أبنائها في خندق واحد، يواجهون العدو ذاته، ولا أحد منهم بمنأى عن إرهابه، والمعلوم بالضرورة أن اشتراك القيادة مع القواعد في المعارك الوجودية يقوي اللُّحمة ويشد الأزر ويعضد الاصطفاف.
ستحتسي إسرائيل نخب انتصار مدنس، وستنتشي بعض وقت بالتخلص من رجل صلب لم يهن ولم يضعف؛ رجل اختار الآخرة وباع عَرَض الدنيا، وبذل آخر قطرة من دمائه في سبيل تحرير وطنه، لكن هذا نصر مؤقت ستتبعه هزيمة على أرض المعركة، وسيلحق به رد ليس من المتوقع أن يكون طفيفًا، وأغلب الظن أن رحم المقاومة الفلسطينية الذي أنجب هنية ورفاقه لن يتوقف عن إمداد الأمة بالرموز النضالية المجاهدة؛ أولئك النفر الذين صدقوا الله ما عاهدوه، وكانوا في حياتهم صورة للبطولة، وفي استشهادهم امتدادًا للصورة ذاتها.. فهنيئًا هنية.