“مانويل مسلم” كاردينال فلسطين الثائر
في زيارة للشقيقات الفلسطينيات القادمات من غزة بمستشفى مصرية، لاحظت وزميلتي الصحفية الشابة وبدهشة: كيف تحرص بنات الشعب الفلسطيني على مواصلة الدراسة والتعليم، كي تتخرجن في عمر مبكر للعمل من أجل الحياة والاستقلال والحرية، وفي تحد لمستحيلات العيش مع الاحتلال.
هذا الإصرار على العلم والتعليم هو وجه آخر للمقاومة وبطولاتها. ويعززه ما طالعت بالموقع الإلكتروني للجامعة الإسلامية بغزة عندما أعلنت بحلول 1 يوليو/ تموز الجاري 2024 استئناف الدارسة لمن يود من الطلاب عبر الإنترنت، مع أن معظم الأهل بالقطاع أصبحوا بلا منازل مهجرين وجوعى مكلومين.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلهذه الأسباب.. لا ترد سوريا!
«المقاطعة» تكشف هشاشة دعم الشركات لإسرائيل
الحرب مستمرة والعالم سيتغير حتما!
ويضاف إلى هذا ما حل بالجامعة ذاتها من تدمير العديد من مبانيها جراء قصف الطائرات الصهيونية، واستشهاد ما يزيد على 21 من أساتذتها ومحاضريها وباحثيها، يتقدمهم رئيسها د. سفيان التايه وسلفه د. محمد شبير، وذلك من بين نحو مائة أكاديمي شهيد منذ بدء حرب الإبادة على غزة وحتى منتصف مايو/ أيار الماضي 2024، وفق المكتب الإعلامي الحكومي هناك.
كتاب في وقته
من بيروت
منذ أيام، جاءني كتاب ” الكاهن الثائر مانويل مسلم: اسمعي يا فلسطين”، للباحث الشاب ابن غزة “محمد عبد العزيز المصري”، وهو بالأصل رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الإسلامية بغزة قبل نحو العام. وها هو يصدر من “مركز الزيتونة للدراسات” في بيروت.
وكنت قد زرت المركز، وسعدت بالنقاش مع مديره الدكتور “محسن محمد صالح”، واطلعت على عمل وإسهامات ما أخاله منارة أخرى في البحث والثقافة الفلسطينية العربية بلبنان، وهذه المرة ذات توجه إسلامي ووطني معا، ومنفتحة دون تعصب أو ضيق أفق أو إقصاء على تيارات الحركة الوطنية بفلسطين ومجريات واقعها. كما لاحظت كيف يجتهد المركز في مخاطبة جمهور متعدد الميول، وبلغة علمية منضبطة وعصرية، وتتجاوز الإيمانية العقائدية، وما قد يشوبها من انغلاق؟
ويأتي نشر الكتاب في وقته والاتجاه الصحيح، ولأنه يكشف عن ثلاثة أمور في سياق معاناة ومقاومة حرب الإبادة الجارية على غزة:
.. الأول الدور النضالي للمسيحيين ورجال الدين المسيحي في القضية الفلسطينية وضد الصهيونية تاريخيا ولليوم، واسهاماتهم لتعزيز الوحدة الوطنية.
.. والثاني هو إعادة اكتشاف وإجلاء الأبعاد الإنسانية للقضية، وإلى جانب ما هو وطني وقومي عربي وديني واجتماعي. وبالتالي فتح آفاق التضامن معها على صعيد عالمي، وهذا بحكم أن المسيحية هي الديانة الأكثر انتشارا، ويتبعها ثلث سكان المعمورة (نحو 2,2 مليار نسمة). كما أن المذهب الكاثوليكي الذي ينتسب إلى كنيسته بروما الكاهن ولاحقا الأب الكاردينال “مانويل حنا شحادة مسلم ” المولود عام 1938 في “بير زيت”، هو الأول بين المذاهب المسيحية، ويتبعه نحو نصف مسيحيي العالم.
أما الأمر الثالث فيتعلق بأن “مانويل” كان يرعى كاهنا “كنيسة اللاتين/ العائلة المقدسة” بغزة، وسعى لمساعدة أهلها وإغاثتهم، وتعرف على مقاوميها، بما في ذلك قادة “حماس”، مثل: “يحيى السنوار” و”اسماعيل هنية” و”محمد الضيف”. وبالمناسبة هم أيضا من خريجي “الجامعة الإسلامية” هناك.
وفي كل ما سبق ما يجعلنا نأمل في ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية، وربما للغات حية أخرى، ونشره وإتاحته لجمهور أبعد وأوسع من قراء العربية.
مسوغات وطنية
وانتماء للشعب الفلسطيني
يستحق جهد الباحث مؤلف الكتاب التقدير، حيث أجرى 12 مقابلة مع الأب “مانويل”من إجمالي 23 مقابلة شفوية لاستيفاء معلومات دراسته الجادة الشيقة. علاوة على تتبعه الدقيق لأنشطته وكتاباته وتصريحاته، كي يقدم لنا مسوغات وطنيته وثوريته وعروبته، وتشبعه بالحضارة الإسلامية وحب شعبه والإنسانية. ولم يغفل البحث عن تقييم النخب السياسية والثقافية الفلسطينية لمواقف القس الثائر.
ولا يقلل من أهمية الكتاب، ما لاحظنا من غياب رصد وتحليل ردود فعل القيادات والمكونات الإسرائيلية إزاء مواقف الأب”مانويل” أو علاقته بكنيسته الكاثوليكية في روما. وكذا كون الكتاب لم يتناول موقف السلطة الفلسطينية منه بذات الاهتمام مقارنة بمعارضيها، وبخاصة قادة “حماس”.
ولقد مهد الباحث لدراسة الأدوار الوطنية والاجتماعية والثقافية “لمانويل” في خدمة شعبه والقضية الفلسطينية بإلقاء الضوء على إسهام المسيحيين الفلسطينيين في مواجهة الاستعمار البريطاني والصهيوني منذ بداية القرن العشرين سياسيا وصحفيا وبالمقاومة المسلحة، وأيضا في قيادة الحركة الوطنية ونضالاتها المتعددة بعد النكبة 1948.
استدعاء
“جورج حبش”
ولا يفوتنا معنى أن يتصدر صفحات الكتاب استدعاء عبارة الراحل “جورج حبش” الأمين العام المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الماركسية اليسارية: “الثوريون لايموتون أبدا”. وكذا إطلاق لفظ “الشهيد” المستحق على كل مسيحي ضحى بحياته من أجل القضية الفلسطينية واستهدفه الإرهاب الصهيوني.
كما لا يفوتنا أن الكتاب أبرز ووثق انحياز الأب “مانويل” لخيار الكفاح المسلح، وقوله: “إن كنت تبحث عن وطن احمل بندقيتك”، ومواقفه الرافضة لاتفاقات “أوسلو” ووصفها “بالنكبة الجديدة” ولتعاون السلطة الفلسطينية مع الاحتلال. وأيضا دفاعه عن المسجد الأقصى وكل مقدسات فلسطين، ولمأثوراته في هذا السياق مثل: “إذا منع الاحتلال الأذان في مساجد القدس ارفعوه فوق أجراس الكنائس”، و” كل حجر يتزحزح من الأقصى هو حجر يتزحزح بكنيسة القيامة”.
كما رصد الكتاب وسائل نضال تتعدد للأب “مانويل” على أصعدة التعليم والثقافة والعمل الاجتماعي والخيري والسياسي، ومن أجل المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية.
ولا أعلم لماذا لم يلتفت الكتاب إلى مواقف أخرى لا تقل أهمية ودلالة للأب “مانويل” ضد التطبيع، ومنها انتقاده لزيارة الأقباط المصريين والبابا “تواضروس” للأراضي المقدسة تحت الاحتلال، وعلى خلاف رفض سلفه الراحل البابا “شنودة الثاني”.
أما مواقفه بشأن تطبيع الأنظمة العربية فقد أوفاها الكتاب حقها، وحيث وثق تصريحات عديدة “لمانويل”، وصولا إلى معارضة اتفاقات الصلح الإبراهيمي لبعض دول الخليج، وقوله عنها:”هذا التطبيع لا يوقف الاعتداءات الإسرائيلية ويشرعن للاحتلال واغتصاب المقدسات، وبمثابة تخل عن الثوابت الوطنية وخيانة للقضية الفلسطينية والفلسطينيين، ويساعد نفوذ إسرائيل في المنطقة”.
في البال “كابوتشي”
و”حنا” و”صباح”
في الذاكرة غير الرسمية تحتل رموز مسيحية مكانتها المقدرة بدورها إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه، وضد الصهيونية، وبما في ذلك الصهيونية المسيحية التي تتأثر بها بعض طوائف البروتستانت، وليس كل بروتستانتي.
ومن ينسى كيف كان كل أحرار العالم يتابعون المحاكمة الإسرائيلية للمطران الثائر “هيلاريون كابوتشي”؟، رحمه الله وقدس روحه الطاهرة، الذي سجنه الصهاينة ونفوه لتعاونه مع المقاومة ونقله السلاح والمتفجرات في سيارته داخل فلسطين المحتلة.
ومن ينسى أيضا وطنية البطرك “ميشيل صباح” والمطران “عطا الله حنا”؟، متعهما الله بالصحة وطول العمر، وكذا غيرهما، وإن لم تصل إلى انتقاد سلطة “أوسلو” والمناداة بتحرير فلسطين وبالسلاح من البحر إلى النهر والجهر باعتبار “حماس حركة تحرر وطني”، وكما عند الأب “مانويل” .
*
بفضل هذا الكتاب الصادر من “مركز الزيتونة” ببيروت، والذي بدأ رسالة أكاديمية بالجامعة الإسلامية بغزة، أصبح متاحا لقراء العربية أن يعلموا الآن عن “مانويل” رجل الدين المسيحي الوطني الثائر. ولذا نأمل في مزيد من الجهود لتضيء بالمعلومة والفهم والعلم على كل من ينادي بفلسطين حرة ويعمل لأجلها، ومن كل الأديان.
وهذا مطلوب أيضا بعدما روع تنظيم “داعش” وما على شاكلته مسيحيي المشرق العربي، وبخاصة بالعراق وسوريا، وأساءوا للإسلام وسماحته، وأهالوا التراب على تراث في الاستنارة، يستلهم الدين بدوره حافزا للتغيير والتقدم والمواطنة والوطنية والحرية.