السنوار.. من السياسة إلى السلاح والعكس
ما بين الفرنسي شارل ديغول والفلسطيني يحيى السنوار تشابه كبير في التفاصيل والحكايات والمصائر
في اللحظة نفسها التي تحول فيها إلى قائد عسكري رافض للهزيمة وقرر استكمال معركة أمته -على صعوبتها- كانت إرادة الملايين تحيط به وتدعمه، وفي الوقت الذي اختار فيه القائد العسكري المقاوم أن يطرق أبواب السياسة ليستكمل انتصاره في ميادين القتال بآخر سياسي كان شارل ديغول يكتب فصلًا مهمًا في إمكانية أن يتحول رجل المعارك العسكرية إلى رمز سياسي، يبني الجمهورية الخامسة، ويتحرك ببلاده وأبناء شعبه خطوات مهمة للأمام.
قصص نجاح القائد العسكري الذي يتحول إلى رجل سياسي بارع كثيرة وملهمة أبرزها وأكثرها تأثيرًا هي قصة الچنرال الفرنسي الشهير.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتونس.. أن تصنع الوحش وتنتظر رحمته
هل أخطأ شيخ الأزهر حين قال: المفاضلة بين الأديان متروك لله؟!
ماذا لو فازت كامالا هاريس؟
ما بين الفرنسي شارل ديغول والفلسطيني يحيى السنوار تشابه كبير في التفاصيل والحكايات والمصائر.
فمن مقاومة النازية التي اختارها ديغول إلى مقاومة الصهيونية التي اختارها السنوار تبدو حكايات التاريخ كاشفة لاحتمالات أن يتحول قائد عسكري مناضل إلى رجل سياسي ماهر ونزيه لا يعرف الاستسلام، وربما أن ستكمال معارك عسكرية مشتعلة وأخرى سياسية محتدمة تنشد التحرير والتقدم بات هو المبرر الوحيد المنطقي في عالم اليوم لأن يطرق العسكريون أبواب السياسة.
ديغول العسكري والسياسي
في عام 1916 لم تتوقع ألمانيا أن قرارها الإفراج عن القائد العسكري الأسير شارل ديغول هو الذي سيصنع المقاومة ضدها، وهو الذي سيكلفها رفض الاستسلام وتأسيس جناح عسكري مقاوم للنازية يترأسه الچنرال الذي قرر في لحظة تاريخية فارقة أن يكون التعبير الأمثل عن إرادة أمته وأن يستكمل مشوار المقاومة حتى تحرير فرنسا من الاحتلال النازي.
في العام 1940 وقّع رئيس الوزراء الفرنسي فيليب بيتان اتفاق الهدنة مع ألمانيا النازية، وهو الاتفاق الذي كان يمثل استسلامًا كاملًا بالهزيمة أمام هتلر، إلا أن إرادة الرفض لدى ديغول وعدد من زملائه العسكريين كانت كافية لتبقي المقاومة مشتعلة في النفوس والضمائر، وقتها اختار ديغول الفرار إلى بريطانيا وإعلان استكمال معارك التحرير بدعم من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، مخاطبًا الشعب الفرنسي بمقولته الشهير: “إننا خسرنا المعركة لكننا لم نخسر الحرب”.
من القائد العسكري إلى رجل السياسة الذي يرفع شعار المقاومة كان التحول الأكبر، فقد أعلن ديغول من منفاه حكومة المنفى برئاسته، واستطاع خلال قيادته لتلك الحكومة اجتذاب قطاعات واسعة من الفرنسيين لصالح مقاومة الاحتلال النازي، بل استطاع ببراعة السياسي أن يقنع الدول الإفريقية التي تقع تحت النفوذ الفرنسي بدعم الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، والوقوف أمام ألمانيا النازية.
خلال أربع سنوات تمكن ديغول من تحرير بلاده وإعادة استقلالها، وعاد من بريطانيا إلى وطنه وسط شعبية جارفة ليستكمل مشوار الأمل، وتكتمل قصة العسكري الذي تحول إلى سياسي، والمقاتل الذي واصل طريق بناء الجمهورية الفرنسية الخامسة.
وبمقدار ما كانت فترة مقاومته للنازية درامية ومثيرة كانت مواقف السياسي شارل ديغول لا تقل إثارة وتأثيرًا عن الچنرال العسكري، فقرارته المهمة والمصيرية غيرت وجه فرنسا وعلاقتها بالعالم، فبعد اعتزاله للسياسة عاد إلى رئاسة الحكومة الفرنسية مرة أخرى عام 1958، ليضع دستورًا فرنسيًا جديدًا يرسخ الديمقراطية والفصل بين السلطات، وبعدها وبتغيير درامي أنهى ديغول وللأبد الاستعمار الفرنسي للجزائر عام 1962 لتحصل الجزائر على استقلالها الكامل.
السنوار العسكري والسياسي
في عام 2011 لم تتوقع إسرائيل أن القائد الحمساوي يحيى السنوار الذي أفرجت عنه ضمن صفقة الجندي الأسير لدى حماس جلعاد شاليط سيكون هو العقل المدبر والقائد الأهم في عملية طوفان الأقصى الشجاعة، التي زلزلت أركان دولة الاحتلال ووجهت ضربة قاضية لنظرية الأمن والردع الإسرائيلية.
تشابه المصير بين ديغول والسنوار واضح بما لا تخطئه الأعين، فالعدو بنفسه هو من أطلق خصمه إلى براح الحرية ليستكمل ما كتبته له الأقدار.
الآن وبعد قرار حركة حماس تعيين السنوار رئيسًا لمكتبها السياسي خلفًا للشهيد إسماعيل هنية يتحول القائد العسكري إلى سياسي، يترجم ما حققه السلاح إلى انتصارات على موائد التفاوض التي سترسم نهاية للعدوان الصهيوني على أهل غزة بعد أن دخل شهره الحادي عشر.
يحيى السنوار الذي يقود اليوم واحدة من أنبل معارك الحرية والتحرير، والذي واصل المقاومة المسلحة على مدار عشرة أشهر ضد كيان همجي محتل مدعوم من القوى الكبرى دون أن يستسلم أو ينهزم ليس غريبًا عن عالم السياسة، بل إن تجربته السياسية كانت ثرية ومختلفة طوال وجوده على رأس حركة حماس في غزة منذ العام 2017.
فالسنوار السياسي هو من استطاع فتح كل الملفات الصعبة، بعدما أدرك أن دور السياسي هو التحرك في مساحة المشتركات بين جميع الفصائل الفلسطينية حتى وإن اختلفت الرؤية أحيانًا، لذلك قاد عملية حوار واسعة مع الفصائل الفلسطينية، لا سيما حركة فتح، على برنامج توافق وطني، ينهي الفرقة والانقسام، ويفتح الباب لتوافق على الحد الأدنى من المشترك بينهم وهو رفض الاحتلال والاستقلال.
بعدها سعى ونجح بدرجات متفاوتة في تخفيف حدة الاختلاف مع النظامين المصري والسوري، ثم مع دول الخليج العربي، قبل أن يغير كثيرًا من تكتيكات حركة حماس وطبيعة مواجهتها مع الاحتلال أو أساليب تعاملها مع مؤيدي القضية.
ما بين السياسي والعسكري أجاد السنوار دوره، وتحمل المسؤولية بصدق، ورسم طريقًا جديدًا للمقاوم والمفاوض، هذا الطريق الذي لم يتخل فيه عن السلاح وسيلة للتحرير ولم يتنازل أو يفرط في القضايا الرئيسية الكبرى على موائد التفاوض.
هل ينجح السنوار في مهمته؟
في احتمالية نجاح يحيى السنوار في مهمته كرئيس للمكتب السياسي لحماس ليس هناك أصدق من التاريخ.
بقدرته الفائقة على نجاح مهمته كقائد عسكري، ثم بتفاصيل تاريخه كرجل سياسي بارع ومرن ومحترف يبدو يحيى السنوار نموذجًا فريدًا في التاريخ الفلسطيني.
مفكر سياسي يكتب الأدب، ويشرح من داخل سجنه علاقة الشوك بالقرنفل في روايته التي ذاع صيتها مؤخرًا، ويضع تصورات سياسية لعلاقة حركة حماس بالواقع السياسي وفصائله، ثم يقود واحدة من أشرف وأنبل معارك التحرير الفلسطينية.
فيما يقوله التاريخ يبدو السنوار اسمًا يليق بالمرحلة المقبلة من النضال الفلسطيني في سبيل الاستقلال، يواصل مسيرة من رحلوا، ويمزج بين العسكري الذي لا يستسلم والسياسي المحترف الذي يناور ليحصل على المكاسب، تلك التي تتجمع وتتراكم لتصب في مجرى الهدف الرئيس، أي تحرير فلسطين من أبشع احتلال عرفه التاريخ.