خطيب المسجد الأقصى في قلب المعركة من جديد
لم تكن انحناءة ظهر الشيخ وخطواته البطيئة، استسلامًا للاحتلال، بل للزمن الذي سلبه شبابه، ومنحه عكازًا ليرتكز بجسده الضعيف على أرضه، إذ إن وجهه الهادئ وهو يرافق جنود الاحتلال إلى سيارة الاعتقال، وملامحه الواثقة، تثبت بأنه الرجل الذي لا تخيفه أسلحة الجنود ولا متاهات السجون، هو الذي أمضى حياته حاملًا أمانة الدفاع عن القدس، يتردد صوته عبر مكبرات المسجد الأقصى وفي الأزقة القديمة، خطيبًا وإمامًا لقبلة المسلمين الأولى، روح قوية منحدرة من سلالة الكنعانيين، قبلتها الإسلام وشعارها المقاومة.
إنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الشيخ عكرمة صبري للتحقيق والاعتقال، جريمته الوحيدة كانت في كلماته الجريئة، نعيه للشهيد إسماعيل هنية وتصريحه المستمر بأن المسجد الأقصى حق للمسلمين وحدهم، لا يقبل القسمة على اثنين أو التنازل.
اقرأ أيضا
list of 4 items«اسرقوهم يرحمكم الله».. فتوى من أستاذ أزهري انتحاري!
حرب أمريكا وإسرائيل ضد السنوار
عندما تصبح الحرب هي الهدف
لم يشفع كبر سن الإمام ومكانته العلمية والدينية عند بن غفير وأعوانه من محاولة إذلال الشيخ، واتهامه بالتحريض على الإرهاب، وكأنه خطر يهدد الوجود الصهيوني، فالشيخ لم يكن يملك سلاحًا سوى عكازه وكلماته، كلمات يراها المحتل رصاصًا ينخر في وجوده، ويراها أهل الأرض أملًا ينير طريق المقدسيين في ظلام الاحتلال.
مشهد الاعتقال والتحقيق مع الشيخ لأكثر من خمس ساعات مع عدم مراعاة كبر سنه، أشعل السعادة والتشفي لدى اليمين المتطرف وأبواقه الإعلامية، أفرج الاحتلال عن الشيخ مؤقتًا لكنه منعه من دخول المسجد الأقصى لفترة تمتد لستة أشهر، قرار يذكرنا مجددًا بثقل الظلم الذي يرزح تحته شعب كامل ويعيد إلى الأذهان قصة آلاف المقدسيين الذين أبعدوا عن مسجدهم وبيوتهم.
محاولات شيطانية للسيطرة على القدس وتفريغها من أهلها
وكما تفنن المحتل في قتل وتعذيب الفلسطينيين، ابتكر أيضًا أسلوبًا شيطانيًا لإبعادهم عن المسجد الأقصى، فالإبعاد عقوبة دنيئة يتم تطبيقها دون محاكمة أو إجراءات قانونية شفافة، استنادًا إلى أوامر إدارية صادرة عن السلطات العسكرية أو الأمنية، فما الذي يمكن أن يضير المحتل من ممارسة المسلمين لصلواتهم في مسجدهم؟ عقوبة يراها المحتل “منصفة” هي في الواقع وسيلة لتفريغ المدينة من سكانها وهو يدرك جيدًا أن إبعاد شيخ تعلق قلبه بأقصاه هو أشد أنواع الألم وأكثرها قسوة.
وكما ورد في لائحة الاتهام فإن الاحتلال قد يقرر سحب الإقامة من خطيب المسجد الأقصى، وهذا يعني منعه نهائيًا من دخول القدس أو ربما إبعاده عن وطنه، ولك أن تتخيل كيف تعيش في وطنك حاملًا إقامة يمكن سحبها في أي وقت وكأنك ضيف مؤقت.
الوضع الآثم الذي تطبقه إسرائيل ضد المقدسيين منذ احتلالها للقدس الشرقية عام 1967 بمنحهم إقامة في وطنهم وليس الجنسية، ما هو إلا محاولة لفرض واقع جديد، يُراد منه تهويد المدينة المقدسة وإخلاء المسجد من المصلين، فبجرة قلم يمكن إلغاء الإقامة بناءً على أمزجة الساسة المحتلين، مزاجية قد تعرض المقدسي إلى خطر الترحيل الفوري عن بلده.
كلمات الشيخ عكرمة.. سلاحه في قلب المعركة
يدرك الاحتلال مكانة الشيخ عكرمة صبري وتأثير كلماته، ليس لدى الفلسطينيين فقط، وإنما في العالم الإسلامي، فهو شخصية بارزة في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين والمسجد الأقصى، فلقد أصبح حاميًا لأبوابه، ومعلم من معالمه، بعد أن اتحد مع سقوفه وجدرانه، وليس من السهولة اقتلاعه من جذوره.
“لن نترك القدس ولن نترك المسجد الأقصى، نحن هنا باقون صامدون مهما كانت الضغوط والتحديات”، هذا الكلمات هي سلاح الشيخ عكرمة، يرددها دائمًا بحزم، كلمات تعكس إيمانه الراسخ بعدالة القضية الفلسطينية وحق المسلمين في المسجد الأقصى.
الشيخ عكرمة صبري، الذي اعتلى منبر المسجد الأقصى لأول مرة في عام 1973، يواصل بصمود وإصرار أداء هذا الدور المشرف للعام الـ51 على التوالي، منذ ذلك الحين، ورغم الملاحقات والاعتقالات المستمرة، لم يُفلحوا في إسكات صوته، صوته الذي يتردد في السماء ويزلزل الأرض تحت أقدام الصهاينة.
المقدسيون يملكون قلب مدينتهم
لطالما كانت القدس هي محور الصراع، فيظن المحتل أنه بامتلاك مفاتيحها، يملكها، لكنه يتناسى أن من يملك قلبها هو من يملكها، لذلك المقدسيون هم المنتصرون دائمًا، منتصرون في صراع تم جرهم إليه، فكيف يمكن أن يصدقوا أوهامًا عن هيكل مزعوم، وأن يعموا أعينهم عن قبلتهم الأولى، احتلال يصر على البحث في الوهم عن أي حجر أو معلم يثبت شرعيته، لكن تلك المدينة تعلنها بصراحة دائمًا، أنها فلسطينية الهوية والمعالم، مهما حاول المحتل تشويهها.
الشيخ عكرمة والمقدسيون لا يثنيهم الاعتقال أو التنكيل عن التمسك بمدينتهم، فلا يمكن لمدينة تتشابك أصوات الآذان وأجراس الكنائس فيها، وتختبئ حكايات تهمس بها الجدران العتيقة في زقاق البلدة القديمة أن تستسلم، تلك إذن قصة صمود لا تنكسر، فكل حجر يحمل ذكرى، وكل شارع يشهد على تاريخ عريق.
ويبدو أنه بعد عقود من السيطرة على المدينة المقدّسة، لم يتعلم الصهاينة من ردود الفعل الغاضبة دائمًا والتصعيد من قبل الفصائل الفلسطينية، عند انتهاك مقدساتهم، ففي القدس لا تجدي الدبلوماسية الناعمة ومحاولات التهدئة بعد كل انتهاك وتنكيل بالمصليين، لأن التأثير الذي دائمًا تخشاه إسرائيل وتعود وتنساه هو صمود المقدسيين.
صمود المقدسيين نراه في تلك الفتاة الصغيرة، التي تسير يوميًا إلى مدرستها القريبة من المسجد الأقصى، لا تخشى الحواجز أو الجنود، بل ترى في كل يوم فرصة جديدة لتأكيد وجودها، لإثبات أن الأرض لا تزال تنبض بحياة أهلها، فدفترها الصغير يعج بمقولة تتكرر “القدس لنا”، إذن هي قصة شعب لا ينسى وقصة مدينة لا تموت.