المصالحة الفلسطينية لم تعد رفاهية

على خلفية اتفاقية أوسلو عام 1994، وبعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، وما نتج عن ذلك من انقسامات في غزة عام 2006، أسفرت عن سيطرة حركة حماس على القطاع في العام التالي 2007 وحتى الآن، أي على مدى 17 عاما، كانت مدن غزة والقاهرة والدوحة والجزائر وموسكو، وأخيرًا بكين الشهر الماضي، شاهدة على جولات ماراثونية بين الفصائل الفلسطينية، تُوِّجت جميعها باتفاقيات مكتوبة، خصوصًا بين حركتي فتح وحماس، بمشاركة 13 فصيلًا، يمثلون جميع قطاعات السياسة والنضال التاريخي في فلسطين المحتلة.
ربما كانت السنوات العشر الأولى، التي أعقبت اتفاقية أوسلو، هي الأكثر هدوءًا بين الفصائل المختلفة، نظرًا إلى وجود الرئيس الراحل ياسر عرفات على قيد الحياة، وهو الذي كان وثيق الصلة بكل فصائل المقاومة، حيث كان يؤمن بالنضال طريقًا وحيدًا لتحرير الأرض، على الرغم من دخوله حظيرة أوسلو، سواءً كان مرغمًا، بعدما فقد الدعم العربي والدولي، أو عن طيب خاطر، متوسمًا إمكانية تحقيق الهدف من النضال عن طريق المفاوضات، وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بعد ثلاث سنوات من التوقيع، حسب نص الاتفاق، الذي بدأ بما يعرف بـ”غزة أريحا أولًا”.
أحداث السنوات العشر، كشفت للرئيس عرفات، أنه كان ضحية خدعة دولية إسرائيلية، توارت من خلالها عملية النضال الفلسطيني تمامًا، واستُخدمت أجهزة الأمن الفلسطينية في وأد أي ملامح للمقاومة، نيابة عن قوات الاحتلال، وهو ما جعل عرفات يقر بأنه أخطأ حينما انتهج هذا المسار، إلا أنه ما كاد يستفيق من تلك الغفلة، حتى جاءت نهايته، التي علق بها الكثير من الشبهات، وما زالت الرواية الأكثر تداولًا، عربيًّا وأجنبيًّا، هي أنه تم التخلص من الرجل إسرائيليًّا، بمشاركة فلسطينية!!
رحيل عرفات كان البداية
كان رحيل عرفات، الذي لم يكن مفاجئًا، كاشفًا لما تحت الرماد من نار، اشتعلت بعد عامين فقط في قطاع غزة، وتُوِّجت بنهاية درامية لحركة فتح في القطاع، وسيطرة حركة حماس على مقاليد الأوضاع حتى اليوم، بينما يسيطر ما يعرف بالسلطة الفلسطينية، أو سلطة أوسلو، على الضفة الغربية شكلًا، ذلك أن آليات الاحتلال ترتع هناك على مدار الساعة، بين قتل واعتقال، وتجريف أراضٍ، وبناء مستعمرات، إلى غير ذلك من كل الممارسات العدوانية، دون أي اعتبار لاتفاقيات سابقة.
ما يؤكد خدعة أوسلو التي اكتشفها عرفات بعد التوقيع، هو قرار الكنيست الإسرائيلي الشهر الماضي، بما يشبه الإجماع، رفض إقامة دولة فلسطينية، على أي من أراضي فلسطين التاريخية، سواء بالضفة أو غزة أو القدس، معللًا ذلك، بأن وجود دولة فلسطينية معناه نهاية دولة إسرائيل، وهو الأمر الذي يؤكد أن أي مفاوضات في هذا الإطار، ما هي إلا تحصيل حاصل، يستهدف استهلاك الوقت، حتى يُصفَّى ما بقي من القضية، بكل الوسائل الفاعلة في هذا الشأن، وهي التهجير والتطبيع والاستيطان والقتل ومصادرة الأراضي وفرض سياسة الأمر الواقع.
كغيره من شعوب العالم، أصبح الشعب الفلسطيني على يقين من أن المقاومة والنضال والجهاد، أو أيًّا كان المسمى، هي الطريق الوحيد لتحرير الأرض من الاحتلال، كما فعلت كل الشعوب المغلوبة على أمرها على مر التاريخ، من خلال حركات تحرر وطني، سُجلت بأحرف من نور، من أمريكا الجنوبية، مرورًا بآسيا وإفريقيا، حتى معظم الدول العربية، وهو الأمر الذي جعل من حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين، أيقونة استثنائية، للقطاعات الفلسطينية بالداخل والخارج، على اختلاف التوجهات الأيديولوجية.
ولأن الأمر كذلك، فلم يعد مقبولًا بأي حال، استمرار هذه الحالة من الاهتراء والانقسام الفلسطيني الداخلي، خصوصًا بين فصائل المقاومة من جهة، وحركة فتح ممثلة اتفاق أوسلو، أو ما يعرف بسلطة رام الله، من جهة أخرى، في ظل حرب الإبادة الدائرة حاليًّا، ليس في قطاع غزة فقط، وإنما في الضفة الغربية والقدس أيضا، إلا أن الذهاب إلى روسيا في شهر مارس/آذار الماضي، ثم إلى الصين في شهر يوليو/تموز، وعدم تحقيق تقدم على أرض الواقع، يحملان الكثير من علامات الاستفهام، التي تشير إلى ضيق الأفق بشكل خاص، في ضوء الأخطار التي تحيق بالجميع الآن، مقاومين كانوا أو خاضعين.
المقاومة تفرض نفسها
المصلحة الوطنية الفلسطينية، والمنطق، يتوافقان الآن، أكثر من أي وقت مضى، على ضرورة التضامن، بالاتجاه نحو بوصلة أو قبلة واحدة، لا مناص عنها، وهي المقاومة، بهدف تحرير الأرض من أحقر احتلال عرفه التاريخ المعاصر، احتلال صهيوني أيديولوجي غير مسبوق، مدعم بكل وسائل الفاشية والنازية والعنصرية العالمية، بالسلاح والمال وفي المحافل والمنظمات الدولية، على مرأى ومسمع العالم أجمع، في نفاق واضح، يتناقض مع كل شعارات الأخلاق والتكامل والمساواة، بل مع القوانين والمواثيق الدولية.
هذه هي الحقيقة، التي يجب أن تضعها الفصائل الفلسطينية المختلفة نصب أعينها، وهي أن المصالحة أو التضامن الفلسطيني الآن، لم يعد رفاهية، تكون أو لا تكون؛ ذلك أن الإبادة تلوح في الأفق للجميع وتشير إلى الجميع، إذ ليس المستهدف مواطني غزة فقط، القضية في مجملها وفي تفاصيلها مستهدفة، تصفية نهائية معلن عنها، لا يتورع أعضاء حكومة الاحتلال عن التعبير عن ذلك بصوت عالٍ، أحدهم تحدث عن ضرورة استخدام القنبلة النووية، وآخر تحدث عن تجويع وتعطيش، وثالث تحدث عن تهجير، إجماع في نهاية الأمر على ألا مكان في فلسطين للفلسطينيين!!
أعتقد أن شعب فلسطين أدرى بشعابها من الآخرين أيًّا كانوا، أدرى بمدى وحجم المؤامرة باعتباره صاحب القضية من جهة، وباعتباره الأكثر ألمًا من جهة أخرى، نتيجة ما بذله من دماء زكية وأرواح طاهرة، على هذه الأرض المقدسة، التي باركها الله سبحانه وتعالى فيها، وهو ما يحتم تدارك الأمر، بنبذ الأيديولوجيات والمسميات، واحتقار المناصب والكراسي، من أجل تحقيق الهدف الأسمى، وهو تحرير الأرض، خصوصًا بعد أن تخضبت بأطنان من الأشلاء، لم يعرف التاريخ لها مثيلًا، بين أطفال ونساء وشيوخ وشباب، اختلطت جميعها في أكياس وأكفان تقشعر لها الأبدان.
هو نداء يجب توجيهه إلى الضمير الوطني للسلطة الفلسطينية بالدرجة الأولى، أملًا في موقف يتناسب مع حجم الأحداث الجارية، حتى يحق لنا مناشدة الضمير الدولي.