إجراءات عاجلة لإنقاذ الإعلام العربي

منظمة "مراسلون بلا حدود" أكدت تراجع الدول العربية في مجال حرية الإعلام (منصات التواصل)

في الجدل الذي فجره إعلامي مصري منذ أيام مطالبًا بإلغاء مواد التاريخ والجغرافيا والفلسفة من مناهج طلبة الثانوية العامة مؤشرات مهمة تستحق الالتفات.

الردود التي فاضت بها شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، والهجوم الكبير الذي تعرض له الإعلامي القريب من السلطة، افتقد إلى جانب مهم في القصة كلها، أي الإجابة عن الأسئلة الرئيسية في الحكاية.

ماذا يفعل الإعلام في الدول العربية؟

ثم ما دور الإعلامي -أي إعلامي- في الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج؟

ثم هل يمكن للإعلام أن يقوم بدوره الحقيقي في وسط المناخ السياسي والمجال العام القائم الآن؟

كلها أسئلة تستحق الإجابة قبل أن نصل إلى الرد الطبيعي على سؤال: كيف وصل الحال بكثير من الإعلاميين العرب إلى الابتعاد عن جوهر الرسالة الإعلامية والوصول لهذا القدر من التردي الذي يجعل إعلاميًّا يدعو إلى حذف التاريخ والجغرافيا من مناهج الدراسة قبل أن يحذفها بالتبعية من عقول الأجيال الجديدة.

الحرية الغائبة

نظرة سريعة على التقارير الدولية التي تكشف مساحة الحرية الممنوحة للإعلام العربي قد تكون كافية لفهم الحصار الكبير الذي يتعرض له الإعلام بما يضيق من مساحة الفعل والعمل والتأثير، وينحرف به من دوره الطبيعي في كشف الحقائق وتقديمها للرأي العام إلى التفتيش في الأفكار الغريبة والساذجة والسطحية التي لا تفيد المجتمعات بقدر ما ترضي السلطة وتؤثر السلامة.

في تقرير منظمة (مراسلون بلا حدود) عن حرية الصحافة في العالم العربي لعام 2024، جاء تصنيف الوضع “خطير للغاية” ليصف حال الإعلام في كثير من الدول العربية، هذا التصنيف الكاشف لقسوة الحصار والقيود المفرضة على العمل الإعلامي بشكل عام يؤكد أن الطبيعي أن تتوارى معظم الأفكار الجادة والحقيقية ليحل محلها تلك التي يتقمص فيها الإعلامي دور “المُنظّر” ليسكب الأفكار الشاذة والغريبة لكنها في الوقت نفسه أفكار آمنة تحميه من تحمل أي تكلفة سياسية وقانونية محتملة.

تقرير “مراسلون بلا حدود” يكشف أن الدول العربية تراجعت إلى أسفل الترتيب فيما يتعلق بالحريات الإعلامية، لا فرق بين دولة وأخرى، مع ملاحظة أن التقييم في فلسطين ارتبط بعنف الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين، والأثمان الصعبة التي دفعها العاملون في الإعلام في الأراضي المحتلة.

من هنا يمكن قراءة كل “الهرتلات” التي تخرج من إعلاميين تماهوا مع القيود المفروضة على العمل الصحفي، وباتوا يبحثون عن أي محتوى يحفظ وجودهم على الشاشات مهما كان غريبًا وسخيفًا ولا يعبّر إلا عن اللاشيء!

تقرير (مراسلون بلا حدود) لم يكن هو الوحيد الكاشف لحال الصحافة العربية، بل أضاف تقرير “حرية العالم” الذي تصدره منظمة فريدوم هاوس لعام 2024 المعنى نفسه تقريبًا، فقد جاءت ثلثا الدول العربية تحت تصنيف “انعدام الحرية”، أما الثلث الباقي فكان تحت عنوان “الحرية الجزئية”، أي أن الدول العربية تراوحت بين “الانعدام” و”الجزئي” فيما خلا تصنيف الحرية الكاملة أو حتى شبه الكاملة من أي اسم لتلك الدول.

في التضييق على الحريات الإعلامية والصحفية، وفي إغلاق كل المساحات أمام الصحافة الحرة، يبدو التخبط والارتباك والأفكار الشاذة أمورًا طبيعية ولا غرابة منها على الإطلاق.

فلا صحافة بلا حرية، ولا أفكار جادة ومؤثرة في وسط مناخ يفرض على الشاشات والصحف الإطار العريض والمحتوى الحصري الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه وإلا واجه ما لا يرضيه، فقد باتت الرقابة الذاتية التي يفرضها الصحفي والإعلامي على نفسه أشد وطأة من كل القوانين القمعية التي تواجه العمل الإعلامي في الوطن العربي.

مستقبل العمل الإعلامي العربي

ليس هناك مستقبل للإعلام العربي يمكن أن ينقذه أو يدفعه إلى الأمام إلا إزالة المطبات التي تقف أمام انطلاقه للأمام، وتهدئ من سرعة تقدمه في وسط عالم سريع في تغيره وفي أدوات التقدم التي يمتلكها الإعلام في كل مكان.

فبينما الإعلام في العالم يتقدم ويزيد من مساحات تأثيره وسط المجتمعات، يظل الإعلام العربي غارقًا في قيوده وتراجعه.

لا مستقبل أفضل للإعلام العربي إذا ظلت -أو اشتدت- مساحة الرقابة السياسية القاسية التي تمنعه من التفكير والإبداع والتأثير، وإذا استمر الإعلام الموجَّه هو السائد في وسط عالم يزيل القيود من أمام المعلومات الحرة وتدفقها وسرعة وصولها إلى الناس.

ثم لا مستقبل أفضل للإعلام العربي إذا استمرت القوانين التي تزيد من القيود على نشر البيانات وحرية إصدار الصحف، والتي تمنع حرية تداول المعلومات، وتجعل من الدول وأجهزتها المالك الحصري الوحيد للمعلومة، فحتى اللحظة هناك دول عربية لا تمتلك قوانين لحرية تداول المعلومات، وتحاسب وتحاكم الصحفيين على نشر القصص الصحفية والتحقيقات بدواعي الاستقرار والحفاظ على الأمن القومي وغيرها.

ثم لا مستقبل أفضل للإعلام العربي إذا ظلت الرقابة الذاتية مسيطرة على العاملين في الإعلام، تجبرهم على الابتعاد عن المساحات الشائكة، وتلزمهم بالسير وفق الإشارات الخضراء التي تضعها السلطة، وتضيّق من مساحة التفكير والإبداع لتظل الصحافة تجري في المكان الآمن نفسه الذي حددته السلطات وأجهزتها وكأنها تحولت إلى هيئات أو مصالح حكومية.

هل من حل؟

في تقديري فإن الحلول تأتي دائمًا من وسط أبناء المهنة أنفسهم، فليس هناك ما يجبر الحكومات -أي حكومات- على تقديم تنازلات والاستجابة لمطالب عامة إلا بضغوط يفرضها العاملون بالصحافة، وظني أن التفات الصحفيين والإعلاميين لتلك الأخطار الفادحة التي تواجه الإعلام العربي والبدء في الضغوط المنظمة لتغيير الواقع الإعلامي هو البداية لأي تغيير يمكن أن يحدث.

وربما تبدأ المهمة الصعبة من النقابات المهنية التي يقع عليها دور كبير في التفاوض والضغط من أجل تحرير الإعلام وحقه في واقع أفضل، ثم بدور فاعل للمؤسسات الإعلامية ذاتها ورغبتها في مساحات أوسع للعمل والتأثير، ثم لدور كبير لكل الشخصيات الإعلامية الكبيرة وصاحبة التأثير في العالم العربي.

بدون أن ينتبه الإعلاميون لهذه الأخطار التي تواجه مهنتهم ستظل الشاشات والصحف ملكًا لأصحاب الأفكار السطحية والعمياء الذين يطلون علينا كل يوم، ثم إن الأهم أن المستقبل سيكون أكثر صعوبة وأحوال الإعلام ستصبح أكثر ترديًا.

الآن بات على الإعلاميين دور في استعادة مهنتهم وتأثيرها، هذا أو الطوفان الذي سيجرف الإعلام خلال سنوات قليلة إلى مساحات أكثر ضعفًا وتراجعًا وإلى حدود النهاية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان