انتحار فاتنة شنغهاي.. ماذا يحدث في الصين؟!
رغم مرور 7 أسابيع على انتحار الفتاة تشنغ ون لو Zheng Wen Lu بالقفز من نافذة مكتبها الشاهق الارتفاع وسط مدينة شنغهاي، فلم تتوقف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عن تحليل الظروف المؤسفة التي دفعت شابة فاتنة ذات منصب رفيع، عمرها 30 عاما، للتخلص من حياتها بهذه الطريقة المفزعة.
ظلت المرأة مثار حسد من يعرفها، فهي نموذج ناجح، ليس لأنها رائعة الجمال فحسب، بل لحجم الفرص التي حصلت عليها خلال مسيرتها التعليمية، أهلتها لتصبح مسؤولة كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة، بمؤسسة مالية حكومية شهيرة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن تحرير سوريا.. إلى بيع عبد الناصر!
كنافة مبرومة بدماء وعظام الشعب السوري
تحديات ما بعد التحرير
بمجرد تخرجها من الثانوية العامة، التحقت بأفضل جامعة في شنغهاي، دون المرور بأي اختبارات تمهيدية لكلية الاقتصاد، أسوة بأترابها بالتزامن مع منحة دراسية بجامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية، الأمر الذي أهّلها للعمل بالمؤسسة الدولية لإدارة الأصول المالية بالصين CICC أثناء استكمال دراساتها العليا بالولايات المتحدة.
تدل الرسوم التي وضعتها على صفحاتها بوسائل التواصل الاجتماعي أنها عاشقة للحياة، ترتحل كالفراشة بين عواصم الدول والمعالم السياحية، ترسم لوحات فنية قيّمة، تبدو مستمتعة بحياتها العائلية. بفضل راتب يتخطى 100 ألف يوان شهريا، ادخرت تشنغ 4 ملايين يوان في بضع سنين، دفعتها في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022 مقدَّما لشراء وحدة سكنية فاخرة، بأجمل أحياء شنغهاي، بقيمة 15 مليون يوان، تعادل 2.1 مليون دولار أمريكي.
الرهان القاتل
حصلت الشابة على قرض عقاري، قيمته 11.77 مليون يوان لسداد أقساط الوحدة في مدة 30 عاما. بمجرد أن تسلمت منزلها، فوجئت بتخفيض الشركة مكافآت العاملين بنسبة 40%، لمواجهة تداعيات الأزمة المالية التي خلفتها المكافحة السيئة لوباء كوفيد-19، ثم 25% بطلب من الحكومة، التي أمرت بتخفيض الرواتب والمميزات الخاصة للموظفين بالبنوك والشركات الكبرى، للحفاظ على الروح الاشتراكية بين المواطنين.
نال زوجها الذي يعمل بالمجال نفسه ما أصاب زوجته من تراجع حاد بالدخل. زادت الأمور سوءا بعد أن حملت بطفل، الأمر الذي عرّضها لمزيد من تراجع بالدخل، وعدم قدرتها عل تدبير قيمة القسط الشهري للسكن، وتحمُّل تكلفة المعيشة. لم تستطع المرأة تحمُّل الضغوط النفسية التي أحاطت بها لأشهر عدة، فاتخذت قرارها الصدمة بالانتحار قفزا من نافذة مبنى شركتها الفخم وسط شنغهاي، حيث التقطتها كاميرات المراقبة أثناء سقوطها من ارتفاع عال.
خسرت المرأة -الرابحة دائما- كل شيء في لحظات، لترسل رسالة احتجاج على قطع الرواتب، وضغوط الرهن العقاري، التي يتعرض لها ملايين الصينيين، لعدم إدراك السلطات عظم مسؤوليتها عن سوء السياسات المالية والأمنية في البلاد.
انتحار الشباب
لم يكن انتحار تشنغ حالة فريدة، فقد سجل مواطنون وقائع انتحار بالمئات لرجال ونساء، احتجاجا على القيود القاسية لمواجهة الوباء. زادت أعداد المنتحرين خلال فترة الحجر التي فُرضت بأنحاء البلاد، لمدة 3 أعوام أدت إلى خسارة الملايين لأعمالهم وأموالهم.
رغم مرور 15 شهرا على رفع القيود الحديدية، فإن الانتحار ينتشر بين الشباب، قفزا من النوافذ وأمام القطارات، لمن أصابتهم الكآبة من قسوة البطالة، وعدم القدرة على دفع ايجار وأقساط مساكنهم، واضطرارهم إلى النوم بالشوارع والأماكن العامة، وقبول أعمال شاقة لساعات أطول، مقابل رواتب وأجور أقل.
تُذاع يوميا آلاف القصص، عبر برامج متلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، عن حالات الانتحار واحتجاجات لعمال فقدوا وظائفهم، ولأسر بالطبقة الوسطى فوجئت بانهيار الشركات العقارية، التي اقترضت الأموال لشراء وحدات سكنية منها ولم تكمل أعمالها أو لم تخرج إلى النور، فأصبحت الآن مطالبة بسداد القروض، وغير قادرة على وضع يدها على وحداتها أو إعادة طرحها للبيع، في سوق أصيبت بحالة ركود حادة، وتراجع هائل بالأسعار.
لم تتوقف احتجاجات الناس يوميا أمام الشركات والبنوك، ولم تحد منها التسهيلات المالية التي قدمتها السلطات أخيرا، بعد أن تحوّل الرهن العقاري إلى سلاح قاتل، يضرب الأسر والشركات ويُلحق الإفلاس بمئات البنوك.
تراجيديا صينية
تظل قضية الشابة المنتحرة، الأكثر شهرة، لاحتوائها على رواية مأساوية نموذجية، بين مجتمع يملك تراثا واسعا من القصص التراجيدية، سجلتها روائع “أوبرا بيجين”، وحكاها أدباء من داخل القصور الإمبراطورية وأثناء ثورة الفلاحين، وشن الجيش الأحمر حربا دموية ضد الأسر البرجوازية والمثقفين. فقد اجتمع لدى المرأة الجمال والذكاء والمال والمنصب والحظ والشهرة، والأخطر ما كانت تمارسه كخبيرة اقتصادية، مع غيرها من كبار المسؤولين الماليين بالمؤسسة المالية التابعة للدولة.
قدّمت مؤسستها 10 توصيات للحكومة عام 2022، مبشرة المستثمرين بأن حالة الركود الاقتصادي التي وقعت بالدول الغربية أثناء انتشار كوفيد-19، ستدفع بالاقتصاد الصيني لتحقيق قفزات هائلة، مدفوعة بزيادة الطلب العالمي على المنتجات المحلية، لمواجهة النقص الحاد بالأسواق، بما سيؤدي إلى زيادة فرص العمل والإنتاج ودعم الطلب على اليوان، ويشجع المواطنين على زيادة الاستهلاك، ويسهم في ارتفاع أسعار أسهم الشركات والبنوك والمساكن، واستعادة النشاط العقاري لزخمه، الذي يمثل 30% من الناتج القومي.
أدركت المرأة بعد شرائها الشقة الفاخرة، في ذروة الأزمة العقارية، أنها وقعت ضحية لمؤامرة شاركت في نسج خيوطها، حيث لم يتحقق أي من البنود العشرة التي روجت لها على الإطلاق، بينما أوقعت الملايين في مآسي الإفلاس والانهيار المالي والبطالة، فلم تقدر على تحمُّل فكرة الخروج من جنة زائفة صنعتها، لتبدأ من نقطة تضمن لها حياة جديدة، رأتها تحديا قاسيا، وإن ظلت أفضل حالا من غيرها.
طباخ السموم
تكشف المأساة خطورة مشاركة أشخاص -حصلوا على قدر عال من التعليم واطلعوا على خبرات دولية جيدة- في تحريف الواقع، ومساعدة السلطات على تزييف الحقائق وتزيينها بعيون الناس، لمآرب خاصة، دون أن يدركوا أن من يزرع شوكا سيحصده مهما طال به الزمن.
فالواقع يبيّن أن الاقتصاد الصيني الذي شهد نموا جيدا قبل فترة الوباء، يمر الآن بفترة عصيبة، لم تؤد إلى ارتفاع الركود والبطالة بين مواطنيه فحسب، بل امتد أثرها الضبابي بأنحاء العالم. حسب بيان مكتب الإحصاء الحكومي الجمعة 16 من أغسطس/آب الجاري، ارتفع معدل البطالة بين الشباب عمر 16-24 عاما من 13.2% إلى 17.1%، رغم استبعاد 12 مليون طالب أصبحوا في سن العمل. أشار المكتب إلى زيادة ساعات عمل الموظفين الأسبوعية من 47.5 ساعة عام 2022، إلى 49 ساعة عام 2024، رغم تراجع الرواتب، ونوعية وعدد الوظائف لحاملي الشهادات والخبرات العالية، وضغط الشركات على الموظفين الذين يخشون فقدان وظائفهم، للحصول على مزيد من الإنتاج، بدلا من تشغيل أفراد جدد.
يُظهر المكتب أن الأزمة العقارية تسببت في وضع 8.5 ملايين شخص تتراوح أعمارهم بين 18 و59 عاما بالقوائم السوداء، من قِبل الأمن العام، بعد فقدهم القدرة على دفع الرهون العقارية والتجارية، وحبس 584 ألف حالة عام 2023.
تثير الأزمات الاقتصادية حالة قلق شديدة بين شباب الصين، بينما تدفعهم إلى الثورة في بنغلاديش وكينيا، وإلى التطرف في أوروبا، واضطرابات في بلاد العرب، لن تهدأ وتيرتها في المستقبل المنظور.