مدرس الفلسفة الذي تحول إلى دجال

الفنان الراحل أحمد زكي في فيلم "البيضة والحجر" (منصات التواصل)

“ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون” جملة عابرة اقتبسها المؤلف الدرامي محمود أبو زيد على لسان أحمد زكي أو مستطاع الطغري بطل فيلم “البيضة والحجر” إنتاج 1990 وإخراج المخرج المتميز علي عبد الخالق، وكان اقتباس محمود أبو زيد عن صاحب عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون، وأضاف إليها “وتبهيظ المثقفون”!.

“البيضة والحجر” واحد من الأفلام التي ظلمت فنيًا ونقديًا للمؤلف والمخرج ربما كان السبب الرئيس لهذا هو الصدمة الجماهيرية لقصة “الفيلم” ومحتواه الذي قدّم في زمن كان تقدير العلم وخاصة علوم التاريخ والجغرافيا والفلسفة والمنطق وكل العلوم الإنسانية له قيمة لدى الدولة المصرية ولدى الشعوب، ولم يكن يتخيل أن يأتي يوم يصدر فيه قرار ويتصدر إعلام لا يعطي للعلوم الإنسانية قيمتها، ويصبح علم النفس والاجتماع والفلسفة عبئًا لا تتحمله دولة بحجم مصر التي عرفت أنها الجغرافيا والتاريخ والعلوم الإنسانية.

هكذا وبجرة قلم لوزير التعليم المصري الجديد مجهول المؤهل العلمي تقلصت دراسة العلوم الإنسانية في الدراسة بالمدارس التأهيلية للجامعة الإعدادية والثانوية، وفي الطريق كان قرار بإلغاء اللغة الأجنبية الثانية (الفرنسية) من الدراسة الثانوية، وبعد تمهيد عابر لذلك من المذيع المصري تامر أمين في برنامجه التليفزيوني، وقد وجّه المصريون كلهم لتامر كل الغضب وكأنه صاحب القرار الذي صدر في اليوم التالي لتعليق المذيع بعدم أهمية العلوم الإنسانية، ومن الأفضل أن يترك أبناء مصر دراستها ويتوجهوا إلى دراسة العلوم التي تدر عائدًا كبيرًا.

“البيضة والحجر”

صدر قرار من مدير المدرسة التي يعمل فيها مدرس الفلسفة مستطاع الطغري بتحويله للتحقيق الإداري لأنه ينشر أفكارًا لا تتناسب مع العالم الرأسمالي بمبدأ (البعد عن الغلاء بالاستغناء)، وهذا يضر بمصالح مدير المدرسة نفسه الذي يشارك في بيع السلع الاستهلاكية للتلاميذ، وفي مشهد مشابه لحديث تامر أمين عن العلوم الإنسانية يقول شقيق مستطاع له “أنت اللي صممت على دراسة الفلسفة ودي علوم ما بتأكلش عيش، كنت درست دبلوم صنايع كنت لقيت وظيفة” لم تكن علوم البرمجة قد ظهرت لينصحه بها.

يذهب مستطاع بعد عجزه عن دفع تكاليف الحياة في شقته القديمة ليسكن في غرفة على سطوح أحد المنازل الشعبية، وكان يسكن فيها دجال يمارس الدجل على أبناء الحارة الشعبية، ولوجود أصحاب مصالح يوجهون الناس إلى الساكن الجديد، وفجأة يجد مستطاع نفسه أمام طلبات كان يطلبها العامة من الدجال السابق، يحاول أن يصدمهم أن هذا كله دجل وخرفات ولكن لا أحد يصدقه ليتحول مستطاع مدرس الفلسفة وعارف العلوم التاريخية والإنسانية إلى أشهر دجال في البلد.

“الخوف هو سبب اللجوء إلى الدجل، الناس مش ضعيفة ولا جاهلة، لكن خايفة من المستقبل، وهنا يجد الدجال طريقه إليهم”، هكذا يشرح محمود أبو زيد على لسان بطله سر لجوء الناس إلى الدجل.

الشعب في حاجة إلى الاطمئنان على يومه وغده، لذلك يقوم صباحًا ليرى طالعه اليومي أو حظه اليوم، ويستريح لمن يجعله متفائلًا، فكرة اجتماعية وسياسية في الوقت ذاته، فالوعود السياسية للشعوب بالرخاء والعيش الكريم بعد سنوات هي نفسها وعود الدجال لهم بيوم مشرق، ثراء في الطريق، مفاجأة سارة نهاية الأسبوع، وفي النهاية السياسي يطلب أمدًا بعيدًا، والدجال يطلب وقتًا بالتأكيد سيحدث فيه حدث سار ولو بسيط.

صاحب مبدأ

يجلس مستطاع (أحمد زكي) أمام المحقق مرتين، في الأولى محقق إداري في الإدارة التعليمية ولم يكن تحول إلى دجال ليعترف أنه صاحب مبدأ، ويطلب المحقق تحويله لأمن الدولة لأنه أعترف باعتناقه مبدأ الاستعلاء على الغلاء بالاستغناء، والتغلب على الشهوات بالزهد.

في المرة الثانية بعد أن أصبح أشهر دجال وصاحب إصدارات وكتب في قراءة الطالع والأبراج والتنبؤ يجلس أمام محقق في النيابة ليعترف أنه دجال، ويأبى وكيل النيابة أن يصدقه، فقد أصبح الدكتور مستطاع واحدًا من أشهر قراء الطالع في العالم، وصاحب نبوءات تتحقق بل إن المحقق ذاته يعترف له أنه لا يتحرك من منزله إلا بعد قراءة طالعه في الجرائد.

استطاع الدجال مستطاع أن يستخدم علومه الإنسانية في إقناع جمهوره ومريديه أن طالعهم أفضل، استخدم حاجة المريد إلى يقين ليقنعه بما يحدث، لعب على أوتار الخوف، والطمع، وأيضًا بعث الثقة في النفس، علم جهل بعضهم بأنفسهم ليحقق لهم ما عجزوا عنه، فهم أغوار كل مريد وتطلعاته وأحيا فيه قدراته الإنسانية، ولم يعد في استطاعة أحد أن يفهم أن تلك قدرات علمية، فكان أن أصبحوا أحياء بالوهم والإيحاء.

المدرس الباكي

أزمات نفسية كثيرة شهدها المجتمع التدريسي خلال الأيام السابقة نتيجة لتهميش العلوم الإنسانية كلها في الدراسة قبل الجامعة، وخاصة هؤلاء الذين يدرسون علوم الفلسفة، الجغرافيا، الجيولوجيا، اللغة الفرنسية لطلاب الثانوية العامة وخاصة المتعاملين منهم مع المراكز الخاصة، هؤلاء الذين كانوا يمتصون دماء أولياء الأمور، الآن أصبحوا جميعًا بلا مصدر دخل فبدأوا يبحثون عن حلول.

رغم حملة كبيرة أعقبت قرارات الوزير! وعقب جملة المذيع عن العلوم الإنسانية وعدم أهمية دراسة التاريخ والجغرافيا، والعلوم الأخرى واستبدالها بعلوم ذات عوائد مادية إلا أنه واضح أن المنهج سيستمر في تخفيف هذه العلوم وإلغائها.

قد شاهدت بالصدفة هذا “الفيديو” المنتشر لمدرس اللغة الفرنسية الذي يشرح قلة حيلته بعد إلغاء تدريس اللغة المتخصص فيها، وحكى عن أزمته التي وقع فيها، ورغم تضامني المبدئي مع أزمته إلا أنني لم أتعاطف قط مع بكاء هذا المدرس.

بداية أنه استسلم للقرار مثل الجميع وغالبًا سيكون الموضوع مثار أيام ثم ينتهي كما هي عادة “الهاشتاج” على وسائل التواصل الاجتماعي، ثانيًا هذا شاب في مقتبل عمره فإذا استسلم مع الجميع، وهذا هو الذي سيحدث، فما زال أمامه العمر طويلًا ليجد لنفسه عملًا بتخصصه بعيدًا عن مراكز التعليم الخاصة، والدروس الخصوصية.

أما السادة مدرسو الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ والجغرافيا، فقد فعلها ثلاثي “البيضة والحجر” محمود أبو زيد، أحمد زكي، وعلي عبد الخالق حينما أفسحوا أمامهم مجالًا كبيرًا للمستقبل قبل أربعين عامًا ويزيد، وفي الدجل مع شعوب الخوف والجهل والمرض مجال كبير للدجالين وحملة الأوهام، وعندما يضيع في وطن صنع من الجغرافيا والتاريخ وعلوم التوحيد والعلوم الإنسانية كل هذه العلوم يصبح مستقبل الدجالين باهرًا، وشر البلية ما يضحك أو يبكي كما هو الحال.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان