أزمة التعليم أكبر وأعمق من تطوير هامشي للثانوية العامة!

امتحانات الثانوية العامة في مصر (منصات التواصل)

ليس التعليم في مصر هو الثانوية العامة، وأزمة التعليم التي تستعصي على الحل؛ حكومة بعد أخرى، لا تُحل بمجرد تخفيف أحمال الثانوية.

ووصف تخفيف الأحمال، انتشر مؤخرًا، سخريةً من خطة محمد عبد اللطيف، وزير التربية والتعليم الجديد، لتطوير التعليم، التي تستهدف الثانوية العامة، وهو تطوير بلا تطوير، بل مجرد تقليل لعدد المواد التي يدرسها الطلاب في هذه المرحلة، وإحالة مواد خارج مجموع الدرجات، أي أنها يدرسها الطلاب، وفيها نجاح ورسوب، لكنها لا تُضاف إلى المجموع، ومن هذه المواد اللغة الفرنسية، وهي اللغة الأجنبية الثانية في التعليم الحكومي.

ودراسة اللغات المدخل الوحيد لفهم علوم ونتائج البحث والدراسات الأكاديمية للبلدان صاحبة هذه اللغات، ولغات العلم والحضارة من ضمنها الفرنسية، وطبعًا الإنجليزية، وكذلك الألمانية والإيطالية، ولن تفهم بلدان أمريكا اللاتينية ما لم تُتقن الإسبانية وبعدها البرتغالية.

وحتى اللغة العبرية، التي كانت في حكم اللغات الميتة، أحياها اليهود، واعتمدوها لغتهم الوحيدة تحدثًا وكتابةً وتعليمًا وعِلمًا في إسرائيل، وبها يحصل أكاديميون على جوائز نوبل، وعدد من الجامعات العبرية في قائمة الأفضل بالعالم.

كل العلوم مهمة وضرورية

كما جعل الوزير مادة الجيولوجيا خارج المجموع الذي يُؤهل للالتحاق بالجامعات، وجعل علم النفس والفلسفة والمنطق مواد هامشية، وليس هناك علم تطبيقي أو اجتماعي أو إنساني أهم من الآخر، أو يسبق الآخر، كل علم مهم دراسةً وثقافةً وتوسيعًا للمدارك وفهمًا للطبيعة والحياة والإنسانية.

لن ترسم خططًا صحيحة لحاضر ومستقبل أي بلد ما لم تكن على دراية بتاريخ هذا البلد، ولن تدرك قيمته وتأثيره ومكانته ما لم تتفحص جغرافيته، وتقتلها بحثًا وارتباطًا بالسياسة والاقتصاد وحركة التجارة وطرق المواصلات والارتباط بالإقليم والعالم.

والحضارة العلمية المادية يلزمها الجانب الثقافي والأدبي والفني، حتى تكون حضارة إنسانية مكتملة لا تطغى فيها المادة على الوجدان، ولا يتحول الإنسان إلى مجرد آلة، أو جسد بلا روح ومشاعر وأخلاق وقيم وفضائل وتفكير عقلاني، وهذا يعني الاهتمام بدراسة الفلسفة، منبع الحكمة والرؤية الشفافة، وعلم النفس وهو ضروري لفهم دواخل الفرد وتشابكات المجتمع وكيفية حل الصراعات وعلاج الأمراض النفسية للتوصل إلى سلام الفرد والجماعة والأمة كلها، والمنطق هو إعمال العقل والتفكير السوي، وهو الوجه الصحيح لوجه آخر من العبث والفوضى والضجيج المدمر لروح الإنسان والمجتمع.

أين التطوير الجاد للتعليم؟

ليست مشكلة الثانوية العامة في مصر هي تقليل عدد المواد التي يدرسها الطالب في سنواتها الثلاث، ومن المثير للسخرية الزعم بأن أحد أهداف التخفيف هو محاربة الدروس الخصوصية، وتخفيف عبئها على العائلات، أي بدل أن يأخذ الطالب دروسًا في عشر مواد فإنها تكون في ست فقط.

المعنى هنا أنك لا تحارب هذه الآفة، وإنما تبقيها وتحاول فقط ضغطها والتقليل منها، ويعني ذلك أنها ستظل تنخر في جسد التعليم والطالب والأسرة، وأنك تقر بوجودها ولا تسعى لاسئصالها أو الوصول بها إلى مستوى متدنٍّ جدًّا عبر خطة تطوير وإصلاح جدّي وجذري للتعليم كله؛ العام والجامعي، يضعها خبراء ومتخصصون وذوو شأن، ويكون هناك هدف واضح حاسم بأن التعليم هو الأساس  لبناء الإنسان وصنع التنمية الجادة، وولوج الحداثة والحضارة ليكون للبلد قيمة بين البلدان المتقدمة.

الوزير الحالي أدى اليمين القانونية في 3 يوليو/تموز الماضي، وبعد 40 يوما فقط يخرج علينا بما سمّاه خطة تطوير التعليم، ويدّعي أنها نتاج حوار مجتمعي مع أطراف كثيرة لها علاقة بالتعليم، ويصعب قبول أن تتبلور خطة لإنقاذ التعليم في شهر وعدة أيام من شخص جاء من إدارة مدرسة خاصة وادّعى أنه يحمل الدكتوراة، ثم ثبت أنها شهادة أونلاين مدفوعة، وكان ذلك مؤسفًا له وللحكومة.

حالة واحد فقط يمكن فيها قبول خطة إصلاح في حقيبة وزير في مدى زمني قصير إذا كان في حكومة مشابهة لحكومات البلدان الديمقراطية التي يكون لكل حزب فيها خطط عمل وبرامج بديلة وأفكار مكتوبة جاهزة للتطوير والإصلاح في مختلف الوزارات، وعندما يفوز ويشكل الحكومة فإنه يكون جاهزًا لتنفيذ أجندته.

أما في مصر فقد لا يعرف هذا الشخص لماذا تم اختياره وزيرًا؟ وماهي حدود صلاحياته؟ وهل بمقدوره أن ينفذ ما يراه صائبًا؟ وهل يمتلك رؤية أصلًا ولديه برنامج جاهز للتطبيق؟ الوزير ليس أكثر من موظف كبير، أو هو سكرتير كما هو الشائع لدى الناس.

ومن تفحص صورة متداولة للوزير خلال اجتماع رئاسي ضيق برفقة جنرال عسكري يمكن تفسير كيفية هذا التطوير القاصر، إذ ربما تكون الخطة مجرد تكليف له، ودوره أن يروج لها ويتحدث كأنها من مخرجات عقله، وحتى هذه المخرجات، لو صحت نسبتها إليه، فإنها لا تقدم شيئًا مهمًّا لوقف تدهور التعليم العام، أما التعليم الجامعي فهو يسير في طريق آخر يبدو مقصودًا وقد يكون لذلك حديث منفصل.

قواعد التعليم الأربع

نرى أن التعليم له 4 قواعد يقوم عليها بنيانه هي:

* فلسفة التعليم، أي ماذا نريد من العملية كلها؟ ما أهدافها ومساراتها؟ وما مخرجاتها؟

* المدرسة، وهي هنا المبنى الهندسي، والمعنوي، أي الطريقة والمستوى اللذان يتم عبرهما تقديم العملية التعليمية خلال وجود الطلاب في بيت العلم والبحث والنشاط.

* المنهج الدراسي، وهو المادة العلمية -تطبيقية كانت أو اجتماعية أو إنسانية- التي يحتويها الكتاب المدرسي.

* المعلم، وهو الفاعل في العملية التعليمية والمحرك لها، وهو المرشد والقدوة وصانع مخرجات التعليم.

بدون التأسيس الصحيح والعناية الكاملة بهذه القواعد والأركان فلا تعليم ولا علم ولا إنسان ولا حداثة ولا حضارة ولا تقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

هنا مربط الفرس في التطوير والإصلاح وإنقاذ التعليم في مصر، وفي أي بلد يقف على شفا جرف هار، وخطة التطوير لدى الوزير عبد اللطيف تخلو من أساسيات التطوير وتتمسك بالهوامش والسفاسف.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان