“بلال الحسن” أبعد من مرثية

بلال الحسن (منصات التواصل)

عندما جاء من باريس نبأ وفاة الصحفي الفلسطيني المخضرم “بلال الحسن” صاحب تجربة مجلة “اليوم السابع” يوم 8 أغسطس/آب الجاري، كان عدد الشهداء من الصحفيين الفلسطينيين منذ “طوفان الأقصى” وبدء الحرب على غزة يناهز 166 صحفية وصحفيا.

“بلال” ابن حيفا المولود 1939، ذاق مرارة النكبة وعواقبها تهجيرا ولجوءا واغتيال الصهاينة الأهل والرفاق والزملاء. ويعتبر علامة مهمة في تاريخ الصحافة الفلسطينية، والعربية عموما.

سطع نجمه وتألق مع “اليوم السابع” (1984 ـ 1991)، بعد رحلة عامرة بمحطات في تاريخ صحافة القضية الفلسطينية والعروبة والتقدم. وعلى نحو خاص صحافة بيروت بين منتصف الستينيات وبداية الثمانينيات، ومن بينها: “المحرر” التي رأس تحريرها الشهيد “غسان كنفاني”، و”الحرية” لمحسن إبراهيم و”السفير” لطلال سلمان، رحمهم الله جميعا. وهذا قبل أن يغادر مع منظمة التحرير إثر الغزو الصهيوني 1982، وبعد صمود أخير في مواجهة القصف والحصار والاغتيالات والتجويع والعطش ومكائد الدبلوماسية الأمريكية، استمر 67 يوما.

عن تجربة

“اليوم السابع”

أخال “اليوم السابع” الباريسية المجلة الأولى بين صحافة العرب بأوروبا في عقد الثمانينيات رصانة ومصداقية وانفتاحا على الأحداث عربية وعالمية. والأهم بالنسبة لمد الجسور بين أرجاء عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه، بأحداثه ومفكريه وكتابه وأدبائه وفنانيه ونقاده وقرائه، وحتى بالمسابقات بين شباب الأدباء والمبدعين.

ومولد هذه المجلة ليس ببعيد عن سياقه الزمني حين انطلقت مشروعات عربية جامعة تحاول تجاوز ما هو قطري ضيق ورسمي فج، مثل المنظمة العربية لحقوق الإنسان 1983، ومن قبلها مركز دراسات الوحدة العربية 1975.

في تلك السنوات، كنت شابا أتردد على أكشاك باعة الصحف بالقاهرة انتظارا للعدد الجديد من “اليوم السابع”. وتماما كغيري كثر من القراء، ممن يترقبون أسبوعيا وصولها إلى مئات المدن من المحيط إلى الخليج، ليبدؤوا في صفحة غلافها الخلفي مطالعة مقالات أعلام الفكر والأدب من المحيط إلى الخليج، يتناوبون على هذه المساحة تحت عنوان “آفاق”. نتعرف على أغلبهم للمرة الأولى، وتنير لنا الطريق كلماتهم القادمة كأضواء من هذا البعيد الذي يشبهنا ويعنينا.

تجاوز المشروع

العرفاتي الصدامي

كانت “اليوم السابع” مشروعا “عرفاتيا” بالأساس، بل ربما كانت مشروعه الإعلامي الأهم بعد الخروج من بيروت.  وكان انحيازها واضحا لعراق “صدام حسين”، في حربه مع إيران الثورة وحكم الملالي.

وبإعادة التأمل اليوم أدرك أن توقف المجلة كان حتميا بعد حماقة غزو صدام للكويت، وتورط عرفات في تأييده. وأيضا لأن منظمة التحرير تحت سطوة “العرفاتيين” كانت تستعد “لأوسلو” من بوابة الاعتراف الأمريكي الإسرائيلي بها، وتقبلها واعترافها بالصهيونية.

وأظن أن المجلة نجحت في الخروج من ضيق معاطف الأنظمة الرثة الباهتة اللون والمختلف عليها سياسيا والنقيضة لدعوات كتابها من أجل الديمقراطية والعقلانية، وذلك بالاهتمام بالفكر والثقافة والفنون، وباعتماد المهنية.

وكانت تتويجا لتفاعل الخبرات الصحفية اللبنانية والفلسطينية لعقود خلت. وهنا تجدر الإشارة إلى دور الراحل جوزيف سماحة “دينامو” المجلة، وكذا بيار أبي صعب وهو من أبرز الصحفيين اللبنانيين والعرب في مجال الثقافة. كما سمح وجودها في باريس بتفاعل متميز مع المفكرين والصحفيين والكتاب من المغرب الكبير، وبخاصة الأشقاء التونسيون.

مع المجلة

من القاهرة

بدوري نشرت في “اليوم السابع” بعد انطلاقها (تحقيقات صحفية وعروض كتب وحوارات في السياسة والثقافة والسينما)، عبر مراسلها بالقاهرة الزميل الراحل حسين شعلان، رحمه الله، أستاذي بصفحة “الحوار القومي” في “أهرام” منتصف الثمانينيات.

كانت هذه المساهمات على بعد آلاف الأميال من مقر المجلة، لكنني لن أنسى نقاشا تكرر مع حسين في كيفية عمل المجلة، وعلاقتها بمراسليها وتفاعلها معهم، وبشأن التحقيقات الميدانية والحوارات التي أوفدته المجلة للقيام بها حول أحداث كبرى في الجوار المصري. وأذكر منها انتفاضة السودان 1985، التي أطاحت بالنميري، والمسار الديمقراطي المتعثر، الذي انتهى بانقلاب البشير والترابي 1989.

ولا يمكنني أيضا نسيان هؤلاء المثقفين المبدعين العرب المتحلقين حول تجربة “اليوم السابع” على تنوعهم، ممن كانوا يترددون على مكتب مراسل المجلة بالقاهرة قادمين من باريس عادة. وعندما أسترجع الذكريات ألاحظ بينهم من أدوا أدوارا فكرية سياسية من أجل الديمقراطية لاحقا في بلدانهم، بصرف النظر عن المآلات، والحصاد الهزيل وثماره المعطوبة.

أجيال وراء أجيال

حياة بلال تحيل إلى أجيال فلسطينية سبقت في العمل الصحفي والنضال السياسي تحت مظلة منظمة التحرير بما لها وما عليها. واللافت أنها تختلف عن مسارات الجيل الجديد للصحفيين الفلسطينيين، الذي يتابع العالم تضحياته الآن لنقل الحقيقة بالصورة والصوت من غزة والضفة الغربية بين نيران الحرب والدمار، على الرغم من استهدافهم وعائلاتهم وبيوتهم.

لا يملك “جيل صحفيي طوفان الأقصى” هذا فضائية أو وسيلة إعلام جماهيرية أخرى فلسطينية معتبرة مؤثرة ومنتشرة، تضاهي ما كان “لليوم السابع” في زمن الكلمة المطبوعة من انتشار في عالمنا العربي. وهذا مع الأخذ في الاعتبار الدور المقدر اليوم لوسائل إعلام عربية كبرى أوسع انتشارا إلى جانب القضية الفلسطينية، “كالجزيرة” و”الميادين”.

ولا أعرف هل لدى صحفيي “جيل طوفان الأقصى” من الحس والوعي قدر ما كان لجيل “اليوم السابع” بشأن مهام عابرة للحدود السياسية الأمنية، ومن أجل بناء جامعة المواطنين العرب إخبارا وثقافة وفكرا ووشائج معارف وضميرا مشتركا.

ومع هذا، فلدى هذا الجيل الجديد جرأة وشجاعة واندفاع واستعداد للتضحية بميادين العمل الصحفي الخطرة، تبدو نادرة عند سابقيهم. وربما كانت حساباتهم الفكرية والعقائدية والسياسية والشللية أقل عبئًا على خياراتهم المهنية، بالمقارنة مع جيل بلال الحسن المثقل بكل هذا، وبغيره من اعتبارات وقيود ومحددات.

هذا الجيل الجديد من الصحفيين الفلسطينيين ربما لم يسافر أغلبه خارج حدود معازله الإجبارية داخل الأرض المحتلة، ونادرا ما نجد بينه مشاهير معلومين لجمهور ونخب البلدان العربية. ولذا تفاجئنا غالبا أسماؤهم غير المعروفة عند الاستشهاد.

وبمناسبة رحيل بلال الحسن في هذا السياق الآني وبالمقارنة بما كان خلال ذروة عطائه الصحفي “اليوم السابع” ومن أجل القضية الفلسطينية ووحدة الشعوب العربية أرى حاجة إلى العمل على أمرين:

ـ الأول.. إعطاء العمق التاريخي والجمعي لتضحيات جيل “طوفان الأقصى” غير المسبوقة، وذلك بربطها مع نضالات وعطاءات وتضحيات واستشهاد من سبقهم.

 ـ والثاني.. مشروع فكري ثقافي وفني وتوثيقي له إشعاعه العربي والإنساني العالمي، ينطلق من ملحمة طوفان الأقصى وإبداعاتها وتضحيات جيلها الجديد هذا في ميادين القتال والعمل الصحفي وكافة ميادين النضال من أجل الحياة في غزة. وهذا حتى لا تذهب بها موجات البث الفضائي والتدفق العارم للإنترنت وسرعة الأحداث وتلاحق التطورات أدراج الرياح والنسيان، فلا تستقر بوجدان وذاكرة أجيال آتية.

*

ولا يبقى إلا واجب العزاء والمواساة للأجيال الجديدة من عائلة “الحسن” الفلسطينية، على تنوع انتماءات واجتهادات الآباء، “فتحاوية ” و”إخوانية” و”يسارية” وغيرها. وكذا للأخ الدكتور سعيد خالد الحسن، الذي شرفت بزيارته وأسرته في منزله بالدار البيضاء المغربية 1999، في وفاة عمه بلال.

وأملي أن يكمل طريق العم الذي كرس سنواته الأخيرة لقضية عودة اللاجئين، بعدما جهر مبكرا بمعارضة “أوسلو”. وها هو جثمانه يوارى في تراب المغرب، إلى حين العودة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان