“العربة الطائشة” في وزارة التربية والتعتيم!

طلاب في المرحلة الثانوية أمام مبنى وزارة التربية والتعليم المصرية (الجزيرة - أرشيف)

لا يفهم والد تلميذ في مدرسة ابتدائية معنى تدريس علم الجغرافيا، فيشرح له ابنه أن هذا العلم يختص بدراسة كروية الأرض، وكيف أنها تلف حول نفسها.

لم يستوعب الأب الذي يعمل تاجرًا للأسماك، ولم يحصل على أي تعليم كيف تدور الأرض حول نفسها، فثار على المدرس “ياقوت أفندي” وكاد أن يفتك به، لكن المعلم الذي لعب دوره الفنان الراحل فؤاد المهندس أصر على موقفه، فما كان من الأب إلا أن أخذ نجله من الفصل الدراسي والذهاب لناظر المدرسة لتقديم شكوى ضد مدرس الجغرافيا الذي يدعي أن الأرض تدور حول نفسها.

يكشف المشهد الشهير في مسرحية “السكرتير الفني” التي كتبها بديع خيري وأخرجها عبد المنعم مدبولي سنة 1968 أن تدريس الجغرافيا بدأ في سنوات مبكرة من التعليم في النظام المصري الذي تغير بعد ذلك، وتأخر تدريس الجغرافيا للمرحلة الثانوية.

كانت مادة الجغرافيا مقررة على طلاب المرحلة الثانوية جميعهم، حيث يدرسها طلاب الصف الأول الثانوي كلهم قبل أن يتوزعوا في السنة التالية إلى قسمين حسب الرغبة هما الأدبي لدراسة العلوم الإنسانية ومنها الجغرافيا، والعلمي للرياضيات والعلوم التطبيقية، لكن ذلك تغير قبل أيام.

جدل التعيين

بينما يؤدي نحو 745 ألف طالب امتحانات شهادة إتمام الثانوية العامة حدث تغيير وزاري كبير في الحكومة المصرية، وتم تعيين محمد عبد اللطيف وزيرًا للتربية والتعليم في الثالث من يوليو/تموز الماضي، ولأيام عدة انشغل الرأي العام بالشهادات التي حصل عليها الوزير الجديد، وهل حصل على الدكتوراه أم أنه قدم شهادة غير معترف بها نالها بوساطة مؤسسات التعليم عن بعد؟

التشكيك في عبد اللطيف وهو حفيد للمشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع الأسبق وقائد الجيش المصري في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 تم إنهاؤه بعد مساندة مباشرة من رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي ألمح فيه لخبرة عبد اللطيف بصفته مديرًا لمجموعة مدارس (مملوكة لوالدته ابنة المشير)، وأن الشهادات الأكاديمية التي يحصل عليها أي مرشح للوزارة ليست هي الأساس، وإنما خبرته العلمية.

وكنتيجة لكل ما أثير حول شهادة الدكتوراه التي حصل عليها الوزير الجديد، فإن الحكومة ووسائل الإعلام قررتا -إحداهما أو كلتاهما- عدم استخدام لقب دكتور مع الوزير، للابتعاد عن الجدل والتشكيك.

تعيين الوزير في أثناء الامتحانات صاحبه جدل آخر بعد ذلك حول تصحيح مادة الفيزياء، وإضافة درجتين بعد إعلان الدرجات، ولأول مرة يعلن وزير التعليم نتيجة ثم يتم تغييرها ويتم إعلان أسماء الأوائل على مستوى الجمهورية، ثم يتم تبديل المواقع بحيث يتراجع الأول للمركز الثالث والثاني يصبح الأول، كما أن هناك من دخل من تصنيف الأوائل أو خرج منه.

المشكلة الحاضرة

الثانوية العامة هي إحدى المشكلات الكبر والدائمة على مائدة الأسر المصرية بسبب الأعباء المالية التي تتكبدها، والآمال المبنية عليها كونها سنة مفصلية في حياة كل طالب يتحدد بناء عليها مستقبله، كما أنها صداع دائم في رأس الحكومات المتعاقبة خاصة بعد ازدياد حالات الغش الجماعي باستخدام صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أو سماعات الأذن في لجان بلا رقابة تضم ما وصفته الصحافة المصرية بـ”لجان أولاد الأكابر”.

صدمة القرارات

مثل حوادث السير التي تقع فجأة بسبب عبور خاطئ أو مرور متهور أو سوء تقدير للسرعة والمسافة، جاءت قرارات وزير التعليم المصري الجديد صادمة ومثيرة للجدل مثل ملابسات تعيينه، فقد قفزت للعلن فجأة دون تمهيد أو مناقشة مفتوحة أو طرح رؤية واضحة أمام الرأي العام، حيث خرج الوزير بقرارات لم تأخذ وقتًا في دراستها تلخصت في حذف مواد ودمج أخرى، وتخفيف المناهج على طلاب الثانوية العامة.

ظاهر القرارات أنها تخفيف عن الطلاب وأسرهم عبر تقليل عدد المواد التي يدرسها طلاب المرحلة الثانوية، لكن نظرة متعمقة ستكشف عن كوارث ليس سهلًا أن يتم تجاوزها، وأن تمر القرارات دون مراجعة من جهات أعلى.

فبعد مرور نحو شهر على توليه منصبه أصدر وزير التربية والتعليم قرارات متتالية خلال أسبوع بإلغاء دراسة اللغة الأجنبية الثانية، وقصر دراسة الجغرافيا والفلسفة وعلم النفس على طلاب القسم الأدبي، قبل أن يقرر بعد أيام في قرار جديد إلغاء تدريس علم النفس والفلسفة من مقررات القسم الأدبي والجيولوجيا وعلوم البيئة من مقررات القسم العلمي.

البؤساء

قرارات الوزير خرجت بسرعة مثل عربة طائشة دهست في طريقها مستقبل آلاف الخريجين من أقسام علم النفس والفلسفة في كليات التربية والآداب ونظرائهما، وقد كانت المدارس أحد روافد العمل بالنسبة لهم بصفتهم مدرسين في القسم الأدبي، ولا يملك الوزير القدرة على إلغاء هذه التخصصات في الجامعات المصرية وتسريح هيئات تدريسها، كما أن سوق العمل لا يتحملهم في مجالات أخر غير التعليم.

مأساة أخرى يعيشها مدرسو اللغة الفرنسية وينتظرها خريجو أقسامها في كليات اللغات والترجمة والآداب والتربية بعد تهميش اللغة الثانية وإلغاء إضافتها للمجموع النهائي، بما يعني تقليل عدد الحصص المخصصة لها وكذلك الاهتمام بها، ومستوى عدد المتحدثين بها، وقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي ببكائيات حقيقية حول الدخل الذي سيتوقف والحياة التي ستنقلب رأسًا على عقب، وهناك من قام بحرق شهادته في بث مباشر احتجاجًا على قرارات الوزير محمد عبد اللطيف، كما أن أعدادًا أقل من مدرسي الجيولوجيا واللغتين الألمانية والإيطالية أيضًا ستضرر عندما يصبحون بلا عمل في المدارس المصرية.

بائع السمك

لم يستوعب بائع السمك في مسرحية “السكرتير الفني” فكرة أن “الأرض تلف حول نفسها”، ولا يمكن لذي صواب أن يتصور تخرج طبيب أو مهندس وهو لم يدرس جغرافية مصر والوطن العربي ويعرف حدودهما وموقعهما وامتدادات بحارها وأنهارها وجبالها والتضاريس التي شكلت تاريخ المنطقة بأسرها.

كما لا يمكن تصور أن التطوير هو إلغاء منهج علم النفس الذي يقدم لمحات بسيطة عن دراسة سلوك النفس البشرية، أو إلغاء دراسة الفلسفة ومعناها “حب الحكمة”، وكذلك علم المنطق بما يرتبه في عقل المتلقي من تفكير نقدي يلتقط الإشارات ويدرك التحولات وعقلاني يفهم المقدمات وما تؤدي إليه من نتائج والمعاني الجامعة والمانعة وطرائق الاستدلال الصحيح، وهو أمر مهم للعلوم كلها وليس لدراسة القسم الأدبي فقط، لكن الوزير ألغى دراسة ذلك كله نهائيًا.

أما طبقات الأرض التي يدرسها علم الجيولوجيا وما تحويه من صخور وتكوينات وجبال، وعلوم البيئة بما تحويه من دراسة تفاعلات الكائنات الحية مع البيئة المحيطة، فلن تكون متاحة لفهم طلاب القسم العلمي بعد إلغاء تدريسها.

بامتياز

لا يكترث وزير التعليم الجديد بتداعيات قراراته التي ستنعكس سلبًا على النظام الجامعي وسوق العمل، والأهم على طبيعة تكوين شخصية الطالب المصري في بلد قديم كانت المعرفة فيه مكونًا رئيسًا لحضارته، كما أنه لم يبذل أي جهد في طرح خططه للتشاور مع المختصين والمراقبين ومناقشتها أمام الرأي العام، وأخرج يده من جيبه وفيها قرارات أعدت على عجل إما بناء على رؤيته الشخصية كأحد رجال التعليم الخاص، أو أرسلت إليه جاهزة من جهة ما، وفي الأحوال كلها فإن القرارات بعد أن تقلصت مساحة التعليم تجعله بامتياز وزيرًا للتربية والتعتيم.

 

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان