مطرب كامننا.. ابن مين في مصر؟

لا أدري متى يتخلص “بعض” المشاهير، وأصحاب النفوذ، والثروات في مصر المحروسة، من التسلط، والعنصرية، والتكبّر، والتنمّر، وغيرها من الطبائع الرديئة الساكنة في نفوسهم، التي تنكشف مع كلمة “أنت مش عارف أنا مين؟”. السؤال بمناسبة “واقعة الاعتداء”، سبًّا وقذفًا بألفاظ نابية، المنسوبة للمطرب محمد فؤاد، وآخرين برفقته، على الطبيب بمستشفى عين شمس التخصصي الدكتور مصطفى أيمن محمد، الذي كان يباشر علاج شقيقه.
إسماعيلية.. رايح جاي
الواقعة سجلتها كاميرات المستشفى والحاضرين، وجرى تداول مقطع الفيديو على صفحات التواصل الاجتماعي، مع استهجان واستنكار لسلوك “فؤاد”. المطرب حضر إلى المستشفى، غاضبا، عقب وصول شقيقه بقليل.. وافتتح تعديه على الطبيب المعالج لشقيقه، متسائلا: “أنت مش عارف أنا مين؟”. المطرب محمد فؤاد، هو صاحب أغنية “كامننا” الشهيرة، التي غناها في فيلم “إسماعيلية.. رايح جاي عام 1997″، الذي كان بداية نجوميته، إذ لاقي الفيلم نجاحا جماهيريا ساحقا، بسبب “كامننا”، التي حققت بدورها أرقاما غير مسبوقة، في مبيعاتها.
ابن رئيس وزراء بريطانيا
“اعتداء المطرب فؤاد” على الطبيب الحائز عند تخرجه على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف، يستدعي إلى الذهن واقعة جرت على بعد آلاف الأميال في بريطانيا، للمقارنة بين السلوك المُتحضر هناك، وعكسه المُتخلف والعنصري هنا.
ففي مساء يوم 5 يوليو/تموز 2000، عثرت الشرطة البريطانية على شاب في حالة إعياء شديد وتبين أنه مخمور، وأن الإعياء ناتج عن السُّكْر الشديد، وليس حالة مرضية. الشاب المخمور، هو ابن رئيس وزراء بريطانيا توني بلير (1997 – 2007)، ويُدعى يوان (عُمره 16 عاما حينذاك).
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4أوروبا على صفيح ساخن.. فضيحة فساد أوكرانيا تهز برلين وتربك زيلينسكي
- list 2 of 4الانتخابات في مرآة السينما: من بخيت وعديلة إلى رشدي الخيام!
- list 3 of 4كيف شكّلت إسرائيل شبكة من المثقفين المزورين؟!
- list 4 of 4من هولاكو إلى تل أبيب: إعادة إنتاج التوحش
اقتادته الشرطة التي لم تعلم هويته، إلى قسم شرطة تشارينج كروس (وسط لندن). ووافق ذلك أن بلير كان قد دعا البرلمان الإنجليزي، قبل أيام من هذه الواقعة، إلى منح صلاحيات أوسع للشرطة، لإنزال عقوبات شديدة بالمخمورين في الشوارع، لما يمثلونه من أخطار على الأمن العام. عندما أفاق يوان بلير، ووجد نفسه مُعتقلا لفّق لنفسه اسما آخر. لكن مع الاستجواب اكتشفت الشرطة أنه ابن رئيس الوزراء، وتعمَّدَ إنكار اسمه حتى لا يجلب مشكلة أو إساءة لوالده. استكملت الشرطة الإجراءات، بإعادته إلى منزله (حسب المُتبع مع أمثاله من القُصَّر)، على أن يعود لاحقا صحبة أبيه (توني بلير)، ليتلقى إنذارا رسميا بعدم التكرار، وهو ما حدث بالفعل. في اليوم التالي نشرت الصحف البريطانية الواقعة. لاحقا، اعتذر توني بلير، نفسه للجمهور البريطاني، مُعربا عن أسفه، وتحمُّله المسؤولية عما جرى، وعن إخفاء نجله لهويته، أمام الشرطة.
عار وفضيحة
ابن توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا وقتها، أنكر هويته، حتى لا يجلب العار والفضيحة لوالده، ولو قال لرجال الشرطة “أنتو مش عارفين أنا ابن مين في بريطانيا؟” لقامت الدُنيا، وهاجت على “بلير”، ولربما طالبته الصحافة، بالاستقالة. في الغرب المُتقدم لا يعرفون طريقة مطرب كامننا الذي يتفاخر ويتنمر بنجوميته المنتشرة في مصر المحروسة. ليس بمقدور الأوروبي أو الأمريكي أيًّا كانت مكانته، تقليد أو محاكاة سلوك أو “كلمة” مطربنا الشهير، التي يرددها غيره من أصحاب النفوذ في بلادنا. هذه الكلمة ومثيلاتها منبوذة، لم تعرفها الأجيال الأوروبية والغربية طوال قرون عديدة مضت. إنها نتاج العصور الوسطى (من القرن الخامس حتى الخامس عشر)، التي تميزت بالعنصرية، والطائفية، والجهل، وسيطرة الكنيسة، والكهنة، وأنتجت القوانين، لخدمة طبقات معينة من هذه الشعوب.
النُبلاء.. والعوام
هذا النهج العنصري والتمييزي يرجع في أصله إلى قانون “سكسونيا”، وهي ولاية ألمانية، يحكمها النبلاء، وهم طبقة من الأغنياء، تملك كل شيء في الولاية. القانون في سكسونيا يتم تطبيقه على جميع سُكان الولاية، لكن طريقة التنفيذ تختلف حسب ما إذا كان المتهم من النُّبلاء أو من عامة الشعب. فإن كان القاتل (مثلا) من عوام الناس يتم تنفيذ عقوبة الإعدام عليه بقطع رأسه أمام جموع الحاضرين، أما إذا كان من النُّبلاء فإنه يقف في الشمس، ويُقطع رأس خياله، ثم ينصرف مزهوا بنفسه. كذلك في حالات الجلد، يكون العقاب على ظل المتهم النبيل. أما الحبس، فينفّذ في أيّ العامة بإيداعه السجن في حين يدخل النبيل المحكوم عليه بالحبس من باب السجن أمام الجمهور، ليخرج من الباب الخلفي في الحال.
دون واسطة أو رشوة
مقولة “أنت مش عارف أنا مين”، التي نطق بها المطرب فؤاد، هي تدوير لقانون “سكسونيا” الذي كان ساريا، في هذه الولاية الألمانية في العصور الوسطى.
عارٌ على بلادنا، أن تجري مقولة مثل هذه، أو مرادفاتها، أو معناها، على لسان أي مواطن مهما علا شأنه، سواء كان نجما غنائيًّا أو سينمائيًّا، أو مسؤولا، أو نجله، أو صاحب نفوذ أو ثروة، فهي من الإشارات الدالة على التخلف، والجهل، وسيادة قانون سكسونيا. معلوم يقينا، أن الدول تتقدم حين يتم إنزال القانون، على كل مواطن بغض النظر عن وظيفته، أو سلطته الوظيفية، أو مكانته الاجتماعية، أو منزلته في عالم المال والأعمال، أو النجومية. سريان القانون على الجميع، يعني شيوع “العدل” دون تمييز بين أفراد المجتمع، أيًّا كانت أوضاعهم، أو منازلهم، أو مراكزهم. كما يستطيع كل صاحب “حق” استخلاص حقه، من دون مُعاناة، سواء كان لدى واحد من أقرانه، أو صاحب نفوذ، أو مؤسسة عامة من دون الحاجة إلى واسطة أو رشوة. ولن نسمع “أنت مش عارف أنا مين؟” التي قذف بها فؤاد في وجه الطبيب المُعالج لشقيقه، مع باقة من السبّ والشتم.
يوم إشاعة العدالة، ستختفي من حياتنا الأمثال الشعبية من عينة: “من كان له ظهر.. ما ينضربش على بطنه”، ويصير الخفير مثل الوزير، ويختفي التمييز في الوظائف وتوريثها الذي ينتشر في مجتمعنا.
