شيخ الأزهر ودفاتره القديمة

شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، من أبرز الشخصيات التي لها حضور محلي وإقليمي ودولي، لما مثلته مواقفه سابقًا وحاليًا من قيمة، سواء على مستوى القضايا الإسلامية العامة، أو الخاصة في مصر، وكثير من الذين يتناولون حياة الرجل أو تاريخه، يمرون مرور الكرام على مرحلة، يعدّونها خارج السياق، وهي مرحلة توليه منصب مفتي الديار المصرية، إذ عرف الشيخ بتخصصه وهو: العقيدة والفلسفة الإسلامية، ولذا اعتبر الكثيرون المدة الوجيزة التي قضاها في الإفتاء مرحلة عابرة، ولأن فتاوى هذه المرحلة لم تجمع سوى بعد مغادرة الطيب الإفتاء، فقد نشرت فيما بعد وحازت مجلدين من مجلدات فتاوى دار الإفتاء المصرية، (السادس والأربعين، والسابع والأربعين)، وقد كانت إجاباته فيها مختصرة إلى حد ما.
من دفاتر الطيب القديمة:
لكن ظلت هناك مرحلة مجهولة لنا سبقت توليه منصب الإفتاء، حين كان مشغولًا بالعمل الأكاديمي، عميدًا لكلية الدراسات الإنسانية في أسوان، فقد تولى الطيب الإجابة عن أسئلة قراء جريدة (الأهرام) وجمهورها منذ عام 1995 حتى عام 2003، وظلت هذه الفتاوى والأجوبة مطمورة، لا يعلم بها إلا القليل، حتى جمعت وصدرت مؤخرًا، في كتاب عنوانه معّبر عن مضمونه، ويكشف عن جانب مجهول في حياة الرجل وفكره، إلا من اطلع عليها وقت صدورها، عنوان الكتاب: (من دفاتري القديمة).
ولولا جمع هذه المادة في كتاب لضاعت كما ضاع كثير من تراثنا الإفتائي في العصر الحديث، أو تأخر صدوره، فلولا أن قيض الله بعض المخلصين من العاملين في مشيخة الأزهر لضاع تراث كثير من الأزهريين، وهو ما يقوم به مكتب إحياء التراث الإسلامي التابع للمشيخة بجهد مشكور، وهو ما قام به من قبل العالم الجليل المفكر الدكتور محمد البهي، حين لاحظ أن شيخ الأزهر محمود شلتوت ليس له إنتاج علمي معتبر، يليق بمكانته، وقد كتب كثيرًا، لكنها مواد متفرقة في بطون المجلات والصحف، فكلف شابين أزهريين هما: يوسف القرضاوي، وأحمد العسال، بجمع تراث شلتوت، وصدر في أربعة كتب كبار، هي: الإسلام عقيدة وشريعة، والفتاوى، وتفسير القرآن الكريم الأجزاء العشرة الأولى، ومن توجيهات الإسلام، وجُمع كتاب خامس بعنوان: إلى القرآن الكريم، وقد كانت حلقات إذاعية لشلتوت في إذاعة القرآن الكريم، وهي ما كان يذاع باسم: مقدمات التلاوة، وكانت تنشرها مقالات مجلة (الإذاعة)، فجمعت في كتاب، وبقيت مقالات أخرى لعمالقة كبار مثل: محمد عبد الله دراز، (وقد قامت باحثة مؤخرًا بجمع تراث دراز الإذاعي)، وعبد الوهاب خلاف، وإبراهيم سلامة، وغيرهم.
محطات مجهولة من حياة الطيب:
كتاب: (من دفاتري القديمة) جله فتاوى للطيب قبل الإفتاء الرسمي، عدا مدخل سريع في الكتاب، عن الجانب الشخصي والعلمي في حياة الطيب، وقد كان مقالًا نشره في مجلة (الهلال) يتحدث فيها عن نشأته العلمية والدينية، وهي مهمة لذكرها تفاصيل عن حياته ونشأته، حيث نشأ في بيت علم وتصوف محب للأزهر ورجاله.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsبسبب معدلات الإنجاب.. تركيا تدق ناقوس الخطر
الصين تنزع القناع عن العلامات التجارية الأمريكية الفاخرة
التحديثيون والمحافظون: الحالة التونسية
ومن المحطات المهمة من حياته التي ذكرها الطيب أنه دخل الأزهر صغيرًا في السن، بعيدًا عن أهله، ومرت حياته بمطبات كانت كفيلة بتعطل مسيرته العلمية، لكنه حول هذه التحديات لحوافز، منها: أنه رسب في السنة الثالثة الابتدائية في مادتي: النحو والحساب، وكان عليه أن يدخل امتحان الدور الثاني قبيل نهاية الإجازة الصيفية، وقد عانى كثيرًا من معاملة أسرته ونظراتها المزرية بسبب هذا الإخفاق، لكنه دخل الامتحان ونجح، وصارت مادتا النحو والحساب من أحب المواد إليه.
أما المحطة الأخرى المهمة التي لم تكتمل، فذهابه إلى فرنسا لحصوله على الدكتوراه من السوربون، بعد أن تعلم الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي في مصر، وذهب بالفعل، والتقى عددًا من أساتذة السوربون، ورأى اهتمامهم بالفقه الإسلامي، ولكنه مرض وتقررت عودته لمصر، وأنهى رسالته في كلية أصول الدين بالأزهر، وقد أفادته الرحلة بأهمية التمسك بالتراث الإسلامي، وعدم الوقوع في الانبهار الحضاري الذي استلب عقول عدد من أبناء العرب والمسلمين الذين ذهبوا للغرب، فانصهروا فيه وذابوا، ومنهم من انسلخ، وعاد بعد فترة من الزمن.
بعض مزايا فتاوى الطيب:
بقية كتاب (من دفاتري القديمة) فتاوى للطيب، وهي فتاوى متنوعة بين أسئلة العقيدة، وقد أجاب عنها بحس ونفس وسطيين، وهو ما نلحظه في الفتاوى كلها في الكتاب، ويغلب عليها جانب التزكية مع الإجابة عن السؤال، فلم تكن فتاوى جافة تنقل من النصوص والتراث بلغة جامدة، وهو ما يحدث من البعض للأسف، لكنها كانت تجمع بين الجواب العلمي، والعاطفة الدعوية التي لا تكتفي بالفائدة العلمية، وقد راعى في ذلك أنه يخاطب جمهورًا عامًا، هو جمهور جريدة الأهرام، وهو جمهور يختلف تمامًا عن جمهور المجلات الدينية المتخصصة.
ولأن الطيب درس كما يدرس الأزهريون، فقد تمذهب بمذهب معين، وقد كان كشأن جل أهل الصعيد مالكي المذهب، فقد بدا تمرسه وإتقانه لمذهبه في عدد من الفتاوى، وإن لم يكن مذهبيًا في كثير من إجاباته، فقد خلت فتاوى الطيب في دفاتره القديمة من أمرين:
الأول: أنها لم تتعصب مذهبيًا لمذهب معين، بل كانت منفتحة على المدارس الفقهية كلها، رغم دراسته المذهب المالكي في المرحلة الإعدادية والثانوية الأزهرية.
والآخر: أنها خلت -في غالبها- من الأحاديث الضعيفة، بل كانت ترتكز على الأحاديث الصحيحة، وهذا نادر وعزيز في أبناء جيله، وأجيال أخرى، الذين قلّ من يسلم منهم من هذه المزلق.
أما الفتاوى من حيث تناولها لقضايا معاصرة ومهمة، وكيف تعامل الطيب معها؟ وما تميز فيها بآراء فقهية معتدلة ومهمة، فهو ما نتناوله في مقال آخر إن شاء الله.