دعوة إلى إعادة قراءة تاريخ الأندلس!
كان سقوط الأندلس من أسباب الصدمة النفسية التي أدت إلى اهتزاز ثقة العرب في أنفسهم؛ لذلك تشتد حاجة الأمة إلى إعادة قراءة التاريخ لتستعيد قدرتها على بناء الحضارة القائمة على المعرفة، فذلك السقوط كان نهاية فترة مضيئة في تاريخ البشرية، يمكن أن تشكل فخرا للأمة.
القراءة المتعمقة للتاريخ تفتح آفاقا جديدة لاستثمار التجارب الإنسانية في بناء المستقبل، وتفسير الانتصارات والهزائم، وهذا يشكل أساسا للتخطيط الاستراتيجي الطويل المدى، وإعداد قيادات المعرفة والتغيير.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsبايدن في سجن طرة!
مصرُ هبةُ الفتح الإسلاميّ
شادية صوت مصر وأيقونة السينما
رؤية غير متحيزة
لذلك أقدم إليكم رؤية عالم إنجليزي قرأ تاريخ العرب في الأندلس بإنصاف هو ستانلي لين بول في كتابه “العرب في الأندلس”، وكانت أهم نتائج قراءته لذلك التاريخ أن حضارة العرب في الأندلس كانت شعلة مضيئة في أرجاء أوروبا بعد أن خمدت مدنية الرومان، وزالت حضارة اليونان.
يقدم ستانلي لين بول إجابة جديدة لسؤال مهم هو كيف ساد العرب، وتمكنوا من بناء الحضارة ؟! حيث يقول: إن العرب عاشوا في صحرائهم في عزلة أعزة مستقلين؛ فلم يستطع أحد من الغزاة السيطرة عليهم حتى الإسكندر الأكبر الذي مات قبل أن ينفذ خطته في غزو جزيرة العرب.
لكن حدث فجأة تطور جديد في أخلاق العرب، نشأ من عزيمة رجل واحد هو النبي العربي محمد الذي نشر الإسلام، فلقيت دعوته آذانا صاغية، وعظم تأثيرها في قلوب العرب، وأثارت في طبائعهم وأخلاقهم ثورة عنيفة شاملة، حيث دعا إلى التوحيد، فكان ذلك فتحا جديدا.
ويضيف ستانلي بول: يصعب علينا في هذه الأيام أن ندرك التأثير الشديد الذي بعثه هذا الدين في قلوب العرب، ولكننا نعرف أن هذا التطور تم فعلا، وأن للأنبياء الصادقين قوة غريبة في اجتذاب النفوس، ولقد كان محمد (صلى الله عليه وسلم) صادقا، وبلغ دينه الذي يراه دين الحق أمينا مثابرا، ولقد كان في هذا الدين من السمو ما أثار موجة ملكت على العرب شعورهم؛ لذلك خضعت الجزيرة العربية كلها لمحمد (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يلقى ربه، ثم اكتسحت جيوش خلفائه بلاد الفرس ومصر وشمال إفريقيا.
ملك المسلمون ثلثي شبه الجزيرة، وسموها الأندلس، وأنشؤوا بها مملكة قرطبة العظيمة التي حملت وحدها في الغرب شعلة الثقافة والمدنية، وقت أن كانت أوروبا غارقة في الجهل.
ويضيف ستانلي بول: إن الأندلس لم تحكم في عهد من عهودها بسماحة وعدل وحكمة كما حكمت في عهد العرب الفاتحين الذي استمر ستة قرون، وكانت قرطبة أيام الخليفة عبد الرحمن الناصر حاضرة جديرة بالفخر والإعجاب.
حضارة عظيمة في مواجهة تخلف أوروبي
يقول ستانلي بول في ذلك العهد كان أسلافنا الأنجلوساكسون يسكنون الأكواخ، ولم تكن لغتنا قد تكونت بعد، وكانت القراءة والكتابة محصورتين في عدد قليل من الرهبان، وكانت أوروبا غارقة في الجهل وخشونة الأخلاق.
كان طول قرطبة لا يقل عن عشرة أميال، وكانت شواطئ الوادي الكبير متلألئة بالقصور المبنية بالرخام والمرمر، وبالمساجد والحدائق التي عني فيها بالأزهار والأشجار النادرة، وأدخل العرب نظامهم في الري الذي لم يصل الإسبانيون إلى مثله من قبل ولا من بعد.
النظافة أساس الحضارة
يقول ستانلي بول: وللحمامات شأن كبير في المدن الإسلامية؛ لأن النظافة عند المسلمين ليست من الإيمان فحسب؛ بل هي شرط لازم لأداء الصلوات والعبادات عامة، في حين كان مسيحيو العصور الوسطى ينهون عن النظافة، ويعدونها من عمل الوثنيين، وكان الرهبان والراهبات يفخرون بقذارتهم، حتى إن راهبة دونت في بعض مذكراتها في صلف وعجب، أنها إلى أن بلغت سن الستين لم يمس الماء إلا أناملها فقط، عندما كانت تغمسها في ماء الكنيسة المقدس.
يضيف ستانلي بول: بينما كانت القذارة من مميزات القداسة؛ كان المسلمون يحرصون على النظافة؛ لأنهم لا يجرؤون على أن يقفوا لعبادة ربهم إلا إذا كانوا متطهرين، وحينما عادت إسبانيا إلى الحكم المسيحي أمر فيليب الثاني بهدم كل الحمامات العامة؛ لأنها كانت من آثار المسلمين.
وجمال العقول أيضا!
يضيف ستانلي بول: ورونق قصور قرطبة وبساتينها يغرينا بجمال آخر لا يقل عن جمالها الظاهر، فقد كانت عقول أهل قرطبة كقصورها في الحسن والروعة؛ فإن علماءها وأساتذتها جعلوا منها مركزا للعلم والثقافة، وكان الطلاب يفدون إليها من جميع أنحاء أوروبا ليتلقوا العلم.
فكانت تُدرَّس بقرطبة كل فروع العلوم البحتة، ونال الطب من النمو والازدهار نصيبا أعظم مما ناله من أيام جالينوس. أما الأدب العربي فإن أوروبا لم تر في عهد من عهودها حفاوة بالأدب وأهله كما رأت في الأندلس، حين كان الناس من كل طبقة ينظمون الشعر.
الكتاب أساس الحضارة
كان الحكم بن عبد الرحمن الناصر مولعا بالكتب، وكان يرسل رسلا إلى كل بقاع الشرق ينقبون له عن الكتب عند وراقي القاهرة ودمشق وبغداد، وقد جمع ما لا يقل عن أربعمئة ألف كتاب؛ لذلك بقيت الأندلس مركز المدنية، ومنبع الفنون والعلوم، ومثابة العلماء والطلاب، ومصباح الهداية والنور.. لقد كانت الأندلس أيام المسلمين جنات تجري من تحتها الأنهار، وكانت تموج بالعلم والعلماء.. لقد بنينا حضارة عظيمة.. فهل نستطيع أن نبنيها مرة أخرى؟! إنه تحدي المستقبل الذي يجب أن نواجهه بعقولنا وقلوبنا وإيماننا وعملنا.