كان لا بد أن تثور بنغلاديش يومًا ما
كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا حين توجهت إلى حيّ الدقي، أحد أحياء الجيزة العريقة، حيث تقع سفارة بنغلاديش في القاهرة. كنت في طريقي للحصول على تأشيرة لحضور فعالية في العاصمة البنغالة دكا.
لم أكن أعرف شيئًا يذكر عن بنغلاديش سوى اسمها، وأنها كانت جزءًا من باكستان بعد استقلالها عن الهند عام 1947، وأنها من أكبر دول العالم في مجال صناعة النسيج.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدولة العميقة بين حضارتين
لا عزاء للدم الفلسطيني في المناظرة الرئاسية الأمريكية ولكن…
غموض التجارة الأردنية الإسرائيلية
عندما وصلت إلى السفارة، وجدت نفسي أمام مبنى بسيط لا يلفت الانتباه. دخلت بخطى هادئة، وتوجهت مباشرة إلى مكتب الاستقبال.
أثناء انتظاري، استرعت انتباهي صور معلقة على الجدران لوجوه لم أكن قد رأيتها من قبل، لفتت إحداها انتباهي على نحو خاص. كانت صورة امرأة ترتدي ساريًا تقليديًّا بألوان زاهية، تبدو في سنوات عمرها الذهبية، وملامحها تحمل مزيجًا من الحزم والدفء.
وقفت للحظة أمام تلك الصورة، وتساءلت: من تكون هذه المرأة؟ تقدمت نحو الموظف الذي كان يقف على بعد خطوات مني، وقررت أن أسأله.
“من هذه السيدة؟” سألته بنبرة فضولية. رفع الموظف نظره نحو الصورة، وابتسم ابتسامة هادئة قبل أن يجيبني: “هذه الشيخة حسينة واجد، رئيسة وزراء بنغلاديش”.
كان الاسم جديدًا عليّ، ولم أكن على دراية بتاريخها أو دورها في قيادة بلدها. استمر الحديث بيني وبين الموظف بعض الوقت، ثم سألته عن إجراءات التأشيرة، وبعد أن انتهيت من الأوراق اللازمة، شكرته وغادرت.
لم تمض سوى دقائق قليلة على مغادرتي للسفارة حتى رن هاتفي المحمول، كان الرقم غير مألوف بالنسبة لي، وعندما أجبت، جاءني صوت هادئ، ووقور، يقول: “أنا شفيق الرحمن قنصل بنغلاديش، هل يمكنني دعوتك إلى مكتبي لتناول فنجان من الشاي، إذا كنت ما زلت بالقرب من السفارة”. كانت الدهشة تغمرني، لم أكن قد ابتعدت سوى بضع خطوات عن مبنى السفارة، فقررت العودة فورا. عند وصولي، استقبلني القنصل بحفاوة، وبدأ الحديث معي بودّ، سألني عن سبب زيارتي، فأجبته بأنها لحضور معرض تجاري في دكا.
أظهر القنصل اهتمامًا واضحًا بمساعدتي، وعرض عليّ كل أنواع الدعم الممكنة. وبينما كنت أشكره على هذا الترحيب، شعرت بأنني أمام فرصة ثمينة لفهم المزيد عن هذا البلد الذي كنت أجهله تمامًا. بعد حديث طويل، كشف لي القنصل عن قوة بنغلاديش المتصاعدة، وأن العديد من الماركات العالمية تُصنع هناك. وهو ما يساهم بشكل كبير في تعزيز الاقتصاد وتوفير فرص العمل لملايين الأشخاص.
غادرت السفارة، والشعور بالحماس يغمرني، بدأت أرى بنغلاديش في مخيلتي كبلد ينمو بوتيرة مسرعة، وتزداد قوته الاقتصادية في ظل قيادة الشيخة حسينة.
بريق خارجي وواقع مرير
عندما وصلت إلى دكا، تبددت تلك التصورات سريعًا. إذ وجدت نفسي عالقة في دوامة من الفوضى، شوارع مكتظة بالناس والسيارات، والهواء ملوث بطريقة لا تطاق. وقد أضافت الحرارة والرطوبة بُعدًا آخر من التحديات التي تعوق الحركة.
وأثناء زيارتي لعدد من مصانع النسيج رأيت مشاهد مؤثرة تعكس التباين الحاد بين بريق الرفاهية التي تتزين بها أغلى الماركات العالمية وواقع العمل القاسي التي يعيشه العمال هنا خلف الكواليس. وهو تباين يكشف الوجه الآخر لهذه الصناعة المتألقة.
في قلب هذا البلد الذي يُعَدُّ من أهم مراكز صناعة النسيج في العالم، تُصنع الأزياء الفاخرة التي تبهر الناظرين، وتستحوذ على أسواق الأثرياء. لكن خلف الكواليس، يتعرض العمال لظروف قاسية، حيث تفتقر بيئة العمل إلى أدنى مستويات الكرامة الإنسانية. يواجهون الحرارة الشديدة، والأعباء الثقيلة، والأجر الزهيد، في مشهد يُظهر الفجوة الشاسعة بين البريق الخارجي والواقع المرير الذي يختبره الشعب البنغالي.
كل شيء بدا لي غير متناسق؛ البنية التحتية المتهالكة، والمباني المتداعية، ظروف العمال الصعبة، وكأن المدينة تحاول جاهدة أن تلحق بركب التطور، لكنها تجد نفسها عالقة في ماضٍ لم تتمكن من تجاوزه.
غضب لا مفر منه
بينما كنت أتابع أخبار الاحتجاجات التي اندلعت منذ أسابيع، حول قانون نظام الحصص الذي يخصص ما يصل إلى 30% من الوظائف الحكومية لأقرباء المحاربين القدامى الذين شاركوا في حرب استقلال بنغلاديش عن باكستان عام 1971، وفرار الشيخة حسينة بعد استقالتها من منصبها إلى جارتها الهند طلبًا للجوء السياسي، بعد أن أدركت أن بقاءها في بنغلاديش غير آمن.
بدأت صورة الشيخة حسينة تتجدد في ذهني. واستعدت حديث القنصل عن الصناعات العالمية التي تُنتج في بنغلاديش، وفهمت لماذا بدأت الثورة في هذا البلد الذي لطالما كان يعاني.
لقد كانت بنغلاديش على حافة الغضب منذ زمن بعيد. الظلم المتزايد، الفقر المتفشي، والقمع السياسي الذي خنق الحريات الأساسية، كلها عوامل ساهمت في إشعال شرارة الغضب الشعبي. تراكمت الأزمات حتى وصلت إلى نقطة اللاعودة، حيث لم يعد بإمكان الشعب تحمل المزيد من الانتهاكات والمعاناة اليومية.
وفي ختام المطاف، أصبحت الثورة خيارًا لا بديل عنه، لرفع الظلم عن كاهل الشعب، ولكي ينجو الوطن من الانهيار.