جزاء “سنمار”.. سقوط إمبراطورية التاكسي في الصين!

تاكسي الصين بدون سائق (الفرنسية)

أوشكت إمبراطورية سائقي التاكسي بالصين على الفناء، بعد تلقيها عدة ضربات قاتلة في بضع سنين، أنهكت قوتها التي صنعت منها أقوى عصابات بخدمة السلطة، وهيمنت على شوارع المدن المزدحمة لعقود.

سمحت الحكومة لشركات سيارات الأجرة العاملة بنظم التطبيقات عبر الهواتف الذكية، الشهر الماضي، ببدء تجربة استخدام المركبات التي تسير بدون سائق، في أكثر 20 مدينة ازدحاما.

تأتي الخطوة الجريئة، في وقت يحطم فيه الجمهور السيارات الآلية القيادة، بشوارع مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، مع تحول الذكاء الاصطناعي من حليف واعد إلى تهديد محتمل للشركات والبشر، وتخرج شركات أمريكية ويابانية من سباق السيارات الآلية، ويعارض الأوروبيون تشغيل تلك السيارات داخل القارة العجوز، بينما تنخرط 19 شركة لصناعة السيارات بالصين، في قيادة تكنولوجيا السيارات الآلية الموجهة بالذكاء التوليدي AI، بقوة غير مسبوقة.

تدعم الحكومة شركات إنتاج السيارات الآلية، وتمنح شركات التأجير مساعدات لمن يختبرها على الطرق العامة، وتحجيم التعليقات والمعلومات السلبية حولها على شبكات الانترنت، بما يزيل قلق الجمهور ويشجعه على ارتيادها بتنقلاته اليومية.

تدفع صانعي السيارات الكهربائية إلى تبوء المركز الأول في الإنتاج العالمي للعام الثاني على التوالي، بما يزيد على 50% من إجمالي الإنتاج العالمي. يتوقع اتحاد مهندسي السيارات الصينية أن تمثل السيارات الآلية القيادة نحو 20% من عدد السيارات المبيعة بحلول 2030، مع تمتع 70% من الكمية المنتجة بتكنولوجيا قيادة مساعدة متقدمة، أسوة بالطيار الآلي في الطائرات.

القفز فوق الحصار

تراهن الحكومة على القفز بصناعة السيارات الآلية فوق أسوار الحصار المشدد، الذي فرضته الولايات المتحدة وأوروبا على الصناعات الصينية، وامتلاك برامج خاصة متطورة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وإنشاء شبكات اتصالات ذات نطاق عريض 5G، وإطلاق كم هائل من الأقمار الصناعية على مدار منخفض من الأرض، وإنتاج خرائط جغرافية ذات معلومات وصور دقيقة، وتبادل بيانات العملاء بين الشركات وأجهزة الأمن القومي.

تضع السلطات أهدافها الاستراتيجية فوق مصلحة سائقي سيارات الأجرة، الذين دفعتهم السلطات إلى التخلي عن إمبراطورية هائلة عام 2012، حينما أجبرت السائقين على التحول من العمل على سيارات مملوكة لهم أو بالأجر اليومي، بالاندماج بشركات سيارات الأجرة التي تستخدم التطبيقات الذكية.

عندما سمحت السلطات بتعميم سيارات الأجرة الذكية، لم تجد غير “أوبر” الأمريكية لاقتحام تلك التجربة، وسرعان ما انقلبت عليها، حينما أدركت حاجتها إلى خرائط لحظية دقيقة للشوارع، ومعلومات كثيرة عن المنشآت العامة والركاب، ومعاملات مالية وحسابات بنكية، تضعها السلطات بقائمة المحظورات التي تهدد أمن البلاد.

ضغطت الحكومة لتفكيك “أوبر” وحظر الأجانب من العمل بهذه الخدمات، ووضعت ثقلها بنحو 100 شركة محلية وثيقة الصلة بالحزب الشيوعي. انقضت السلطات على الشركات الرافضة لقانون الأمن القومي الذي يمنح السلطات حرية الوصول إلى كل المعلومات عن عملاء شركات الأجرة، وحركتها ومعاملاتها المالية التي تتم عبر أنظمة الدفع الآلي التي تهمين عليها شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل “علي بابا” المملوكة لرجل الأعمال جاك ما ونظام التوجيه الجغرافي “بايدو” المناظر لـ”غوغل”.

عبيد التكنولوجيا

أدى الصدام بين السلطات وأباطرة المال والتكنولوجيا إلى عصر سائقي الأجرة، في وقت عانت فيه البلاد من أزمة الخروج من وباء كورونا، حيث وجدوا أنفسهم يعملون كالعبيد لمدة 14 ساعة يوميا، بخدمات التوصيل التي تديرها نحو 240 شركة كبيرة.

تستحوذ مجموعة “ديدي” البديل لـ”أوبر” على 70% من سوق سيارات الأجرة والتوصيل بأنحاء البلاد، مع ذلك تشهد منافسة حادة بين نظرائها، في سوق يعاني ركودا بالمبيعات، وتراجع القوة الشرائية للمستهلكين، الذين خفضوا من مشترياتهم وطلب الأكلات السريعة، مع زيادة البطالة خاصة بين الشباب، وحالة ضبابية لمستقبل الاقتصاد، دفعت المواطنين نحو وسائل النقل الجماعي العامة.

لجأت شركات السيارات إلى خفض أسعار النقل، وتقديم تسهيلات للمستهلكين، على حساب السائقين الذين تراجعت حوافزهم ومرتباتهم بنحو 50% عن قيمة الدخل الذي ظلوا يحصلون عليه خلال الفترة من 2013 إلى 2019، قبل انتشار كوفيد-19. يبلغ الحد الأدنى للدخل في المدن نحو 5000 يوان، ينخفض إلى 3200 يوان بالريف، بينما يحتاج السائق ما بين 7 و8 آلاف يوان شهريا حدا أدني لإعالته شخصيا، كان يحصل عليها عن عمل لمدة أسبوع طوال العقد الماضي.

أجبرت الشركات السائقين على تجاوز السرعات وإشارات المرور بالطرق، للإسراع بتلبية احتياجات العملاء، دون أن تساعدهم على مواجهة أخطار حوادث المرور أو التكفل بعلاجهم وحماية عوائلهم، أو تحمُّل التأمين وتكلفة أقساط الديون عن سياراتهم التي تتعطل جراء الحوادث المتكررة، بسبب السرعة الجنونية التي يساقون إليها.

سائقون تحت الحصار

وجد السائقون أنفسهم محاصرين بين الضغوط المالية الهائلة جراء تراجع الدخل وصعوبة الحصول على عمل بديل، وانزلاقهم في أمراض مزمنة مع بقاء 75% منهم أمام مقعد القيادة لأكثر من 10 ساعات وعدم القدرة على النوم لمدة 5 ساعات يوميا، وإدمانهم السجائر والمنبهات لمساعدتهم على التركيز، فأعلنوا غضبهم عبر تجمعات عمالية، وموجات واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي.

أسفرت موجات الغضب عن دعوات أساتذة بجامعة بيجين واقتصاديين كبار إلى وضع حد أدنى للأجور والضمان الاجتماعي، وجهت الحكومة إلى تحميل شركات التوصيل قيمة الخصومات التي تقدمها للعملاء، وإزالة غرامات ارتُكبت بسبب جهة العمل، ووقف إصدار تراخيص بالمدن المكتظة بسيارات الأجرة.

أدرك السائقون الذين كانوا يُسمّون “أسياد الشوارع” مطلع القرن الحالي أنهم وقعوا فريسة السلطة، التي تنتصر للذكاء الاصطناعي بعد عهود من إطلاق يدهم في التعامل مع الجمهور لاختيار العميل الذي ينقله والمشوار الذي يؤديه، والأجر الذي يطلبه، في مقابل أن يظل عينا للسلطة على حركة الركاب، والإرشاد عن الغرباء الذين يتحركون معهم ونقل أحاديث الناس للمسؤول الأمني أو الحزبي بدائرته السكنية، عند انتهاء عمله اليومي.

وقت الحساب

خسر السائقون سيادتهم على الشوارع وندر العملاء في عصر النقل الذكي، في وقت اهتمت السلطات بتعزيز قدراتها التكنولوجية على مراقبة البشر، بتركيب 550 مليون كاميرا للمراقبة في الأماكن العامة، بالتوازي مع قبضة حديدية على وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإعلام والمعلومات، وتعمم سيارات الأجرة ذاتية القيادة، طمعا في مكاسب هائلة.

لم ينتبه نحو 18 مليون سائق يعملون بأنحاء الصين أن دخولهم تحت مظلة أمنية مستبدة سيؤدي إلى تفكيك إمبراطوريتهم، حينما تجد السلطات بديلا يعمل على مدار الساعة بصمت وتكلفة أقل، على النقيض مما ما كان يمارسه السائقون، من تحد سافر لرجال الشرطة، الذين كنا نلجأ إليهم عند رفض توصيلنا إلى منطقة لا يرغبون بها أو مبالغتهم في تقدير الأجور.

يلقى السائقون جزاء “سنمار” كغيرهم من البشر الذين يعتقدون أن التماهي في خدمة سلطة غاشمة أهم من التزامهم بالمبادئ الإنسانية وعلاقتهم بالآخرين.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان