محمد منير.. حكاية البداية والنهاية

الفنان محمد منير (منصات التواصل) تم استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة الصورة (الجزيرة مباشر)

رغم نجوميته الكبيرة وجمهوره المنتشر في مصر وعلى امتداد الخريطة العربية فما زال بإمكان المواطن العادي أن يحضر حفلًا للفنان المصري محمد منير لا يتجاوز سعر التذكرة فيه 300 جنيه فقط، وذلك بحسب إعلانه منذ فترة قليلة عن حفله في ساحل مصر الشمالي.

السعر يبدو قليلًا مقارنة بأسعار بعض حفلات الفنانين في الساحل المصري نفسه التي تتجاوز آلاف الجنيهات في بعض الأحيان بما يثير غضبًا وتساؤلات عدة.

حافظ منير على بعض من يساريته القديمة، وانحاز في أسعار حفلاته إلى مشروعه الفني المهم الذي بدأه منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وكان في القلب منه الإنسان البسيط والمواطن العادي.

في جدل أسعار التذاكر في حفلات نجوم الفن التي تخطت كل ما هو معقول، ظل منير ثابتًا على موقفه المبدئي من إتاحة حفلاته لجميع الشرائح والفئات، حتى لو تغيّر هو ذاته في الكثير من المواقف والانتماءات القديمة التي ميزت مشروعه الفني منذ البداية.

البداية من اليسار

في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كان المناخ السياسي في مصر يزخر بالتحركات اليسارية والنقابية المدافعة عن حقوق العمال والفلاحين والبسطاء، والمعارضة لسياسات الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها الرئيس السادات، ثم سار على الدرب نفسه خليفته في حكم مصر.

في تلك البيئة السياسية التي يتراكم فيها النضال من أجل تحقيق الأحلام الكبرى في العدل الاجتماعي والمساواة والحرية، ظهر هذا الفتى القادم من النوبة، الذي عرف الناس أن اسمه محمد منير.

على نغمات الموسيقى النوبية والتراث الشعبي الأسواني، نشأ الفنان الأسمر الموهوب الذي رفع راية الثورة على غناء الكبار، هؤلاء الذين كان فنهم يسيطر على المشهد تمامًا حتى بعد رحيلهم في نهاية السبعينيات، حليم وأم كلثوم وغيرهم، وقدَّم نفسه صاحب تجربة حديثة وموسيقى مختلفة، توجه بها إلى أجيال جديدة عاشت على صوت الكبار وإرثهم الفني لكنها باتت على استعداد لتقبُّل فن هذا الوافد المتمرد الذي أرسى قواعد موسيقاه توأم الروح بالنسبة له الملحن الكبير الراحل أحمد منيب، ومعه الموسيقار هاني شنودة.

حتى نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، كان منير على تواصل دائم مع الحزب المعبّر عن الأفكار اليسارية في ذلك الوقت، فقد تبنى حزب التجمع الذي جمع أفكار ورموز اليسار الفتى المتمرد، وساعد في تقديمه للجمهور كأحد الأصوات المميزة والمعبرة عن هموم البسطاء.

تأثر الفنان النوبي الجميل بأفكار اليسار التي شهدت بداياته انطبعت على أغانيه الأولى فخرجت إلى الناس وهي تحمل رسائل اجتماعية وسياسية، وتعبّر عن تطلعات الطبقات الكادحة والمهمشة وأحلامهم في بلد أكثر عدلًا ومساواة.

علّموني ولفوا بيّا

دنيا غير الدنيا ديّه

طعم تاني وحاجة تانية

دا أنتِ نبع الحب صافي

في اللحظة نفسها التي شارك الناس حلمها “بدنيا غير الدنيا ديّه” في أغنيته “علّموني عنيكي” التي كتبها رفيق رحلته عبد الرحيم منصور وغناها عام 1979، كان منير يقدّم نفسه للأجيال الجديدة من الشرائح الفقيرة والمتوسطة، تلك التي تلقفت فنه وعَدَّته التعبير الأمثل عما تعانيه وتحلم به.

بكلمات شعراء اليسار الكبار، فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم، كان منير يستكمل رحلة تواصله مع الناس العاديين، وبصدق ما كتب هؤلاء، حجز المتمرد مكانه في قلوب الملايين التي رددت معه في شجن الحدوتة التي كتبها عبد الرحيم منصور:

يهمني الإنسان

ولو مالوش عنوان 

يا ناس يا مكبوتة 

هي دي الحدوتة

حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، كان منير ملتزمًا بمضمون مشروعه الغنائي، فمنذ اللحظة الأولى تعامل مع فنه باعتباره مشروعًا غنائيًّا كاملًا وليس مجرد ومضة عابرة تختفي مع الزمن، هذا الفهم المختلف للفن وتأثيره أضاف له الموهوب مجدي نجيب بعدًا أكثر شجنًا وعمقًا، وخرج به من خلف “الشبابيك” إلى مساحات أرحب بأغنيته التي كتبها من وراء أسوار السجن، فبعثت من خلف القضبان برسائل الحرية، وانتشرت كما لم يحدث منذ بداية تجربة منير الغنائية:

الدنيا كلها شبابيك

والسهر والحكاية والحواديت

كلها دايرة عليك

أنا بعت الدموع  والعمر

طرحت جنايني في الربيع الصبر

وقلت أنا عاشق سقوني كثير المر

ورا الشبابيك

في بداياته الفنية، آمن الفتى القادم من الجنوب بأن الأشعار التي تُكتب في السجن تأتي دائمًا أكثر صدقًا.

وبكلمات فؤاد حداد التي كتبها في سجن الواحات “الليلة يا سمرا”، أضاف إلى رصيد صدقه مع جمهوره بعدًا جديدًا.

الليل يصبّح ويمسّي 

وتفكّريني وتنسّي

شمّيت هواكِ لقيت نفسي 

يا طيّبة وصابرة الليلة

منير في القضايا الكبرى

باختياره للناس عنوانًا كبيرًا لمشروعه الفني والغنائي منذ البداية، كان منير يضع نفسه كمن يخضع لرقابة جمهوره، وبذكائه كفنان كبير اختار أن يستمر في طريقه الذي بدأه وهو يتعامل مع القضايا الكبرى، فترك مساحات كبيرة في غنائه لقضايا فلسطين والحرية والثورة وغيرها.

في لقاءاته الإعلامية لا يمل محمد منير من التذكير بأن الفن انحياز، وبأنه حالة تحريض على الفعل، هذا التحريض قد يكون انتماءً إلى قضية أو دفاعًا عن قيمة في حياة الناس، لذلك أطلق منير أغنيته “شجر الليمون” التي كتبها عبد الرحيم منصور في إيحاء ملفت وفهم متقن لما تمثله فلسطين في الوجدان الجمعي العربي:

كل شيء بينسرق مني

العمر م الأيام

والضي م النني

كل شئ حواليا ينده لي 

جوايا بنده لك 

يا ترى بتسمعني؟

في غمرة الطريق الذي غنى فيه عشرات الأغاني التي تلامست مع القضايا الوطنية والقومية، لم ينس منير أن يخلد ذكرى الشهيدة اللبنانية سناء محيدلي، أول شهيدة للعمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فغنى في ألبومه (وسط الدايرة) في عام 1989 من كلمات جمال بخيت: “أتحدى لياليك يا غروب، وأتوضأ في صهدك يا جنوب” وأهداها إلى “سناء”.

أنا لو عاشقك متخيّر

كان قلبي زمانه اتغيّر

وحياتك لافضل أغيّر

فيكي لحد ما ترضي عليه

حتى في وقت الثورة كان صوت منير حاضرًا.

فإيمان الملايين التي تجمعت في ميادين التحرير في مصر عام 2011 في ثورة يناير الخالدة أن صوت ابن النوبة الموهوب عاش معبّرًا عنهم، جعل من أغنيته الشهيرة “إزاي” التي كتبها نصر الدين ناجي الأغنية الرسمية للثورة، تلك التي رددها الملايين من الناس في ميدان التحرير بتأثر وتصديق.

في اللحظات الفارقة والكبرى في التاريخ يمكن الحكم على أي مشروع فني بالنجاح أو الفشل.

وقد كانت لحظة الثورة هي الحكم الفاصل الذي أصدرته الملايين دعمًا وتصديقًا لمشروع محمد منير الفني حينما صنعوا من أغنيته للثورة أيقونة ستتذكرها الأجيال.

هل انتهى مشروع منير الفني؟

بأحكام الزمن والتقدم في العمر، ثم بتحولات مواقف وأفكار محمد منير نفسه التي لا يمكن لمنصف أن يتجاهلها، ثم بابتعاده عن جمال البدايات الأولى التي ميزت تجربته، يمكن القول إن مشروع منير الفني توقف منذ بضع سنوات.

فلم يطرح الفنان المتميز ما يمكن اعتباره إضافة مهمة إلى مشروعه الغنائي منذ سنوات طويلة، ومع ذلك تبقى تجربته بكاملها مختلفة ومميزة، ويبقى تراثه الفني والإنساني ملهمًا وعظيمًا و”محرضًا” على التغيير والحرية والإنسانية.

المؤكد أن محمد منير رغم ابتعاده عن مسار البدايات الذي شكّل تميزه لا يزال يحتفظ ببعض من الأفكار القديمة، حتى لو كانت تلك الأفكار لا تتجاوز “تخفيضًا” في سعر تذكرة حفلاته بما يسمح لمن أحبه أن يسمعه ويستمتع بغنائه.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان