هاريس ليست ترامب ولن تكون “المهدي المنتظر”!
في خطابها الأول بعد ترشيحها رسميًّا، لخوض سباق الرئاسة الأمريكية، تناولت كامالا هاريس الحرب الإسرائيلية على غزة، فكرَّرت العناوين الثابتة والأدبيات الحاكمة، لسياسات واشنطن بما هو معهودٌ عنها من تطفيف الميزان، لكفَّةِ الاحتلال في كل الظروف.
ركزت مرشحة الحزب الديمقراطي ذات الأصول الأفروآسيوية، على حتمية إنهاء الحرب بما يحفظ أمن إسرائيل واستعادة الرهائن، وبالتوازي تحاشت الحديث عن مأساة الشعب الفلسطيني الذي سفكت الأسلحة الأمريكية، التي تدفقت بسخاء على جيش الاحتلال، دماء أكثر من 40 ألف شهيد من أبنائه، والذي يكابد حرب تجويع بربرية، وشرعت الأمراض تهاجمه، ومنها أمراضٌ وبائية مثل شلل الأطفال، الذي تُحذِّر مؤسساتٌ إغاثية وصحية، من ارتدادٍ شرسٍ للفيروس المسبب له إلى قطاع غزة المحاصر.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما تصبح الحرب هي الهدف
بايدن في سجن طرة!
مصرُ هبةُ الفتح الإسلاميّ
اللافت أن حديث هاريس في خطابها الانتخابي، يجافي بحدّةٍ ما أظهرته من قبل، من مواقف لم تتبنَّ كُلّيًّا الرواية الإسرائيلية، وكانت أقل تأييدًا لسرديتها، وأقرب “نسبيًّا” إلى الموضوعية، وإنْ لم تخلُ من مآخذ.
رسائل هاريس المبكرة
لدى زيارة نتنياهو واشنطن، وحيث أخذ يُبعثِرُ الأكاذيب في خطبته بالكونغرس، وسط عواصف التصفيق التي قاطعته 80 مرةً، تغيَّبت هاريس بذريعة انشغالها بترتيبات لحملتها الانتخابية، وكانت تلك رسالة سياسية مبكرة، لن يستتر ما بين سطورها عن الزائر الإسرائيلي.
وبعدما استقبلته لاحقًا، لإجراء مباحثات مقتضبة، خرجت بتصريحات لم يسبقها إليها أي مرشح رئاسي أمريكي، إذ قالت حرفيًّا: “يجب وقف المأساة الإنسانية في غزة، ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير، ولن أبقى صامتة”.
لا أحد يعرف مقاصد عبارة النفي التي تفيد المستقبل: “لن أبقى صامتة”، لكن المؤكد أن واشنطن تملك أوراق ضغط، يمكنها بواسطتها كبح مراوغات نتنياهو وشهواته الدموية.
سوابق التاريخ تؤكد ذلك، ومنها ما حدث إبَّان غزو لبنان عام 1982، حين هَاتَفَ الرئيس الجمهوري ريغان رئيس الحكومة الإسرائيلية الليكودي بيغن فقال له حرفيًّا: “إذا لم تُوقِف الحرب فتوَّقع تغييرًا قاسيًا في علاقاتنا”، عندئذٍ انصاع الأخير من فوره، فجمَّدَ صلاحيات وزير الدفاع؛ مجرم الحرب شارون، لأنه “ليس بوسعه تحدي الولايات المتحدة”، كما أقرَّ به في مذكراته.
لكن لماذا لا يضغط بايدن على إسرائيل؟
يجيب الدبلوماسي الأمريكي، الذي عمل سنوات طويلة على مباحثات السلام آرون ميلّر: “بايدن لديه التزام عاطفي وأيديولوجي اتجاه إسرائيل”.
على أن هناك سؤالًا أكثر أهمية مما سبق هو هل ستمارس “السيدة الرئيسة” ضغوطًا على إسرائيل؟
الإجابة ليست حاسمة، لكن “الرئيسة المحتملة” ليس لديها التزامٌ عاطفي اتجاه إسرائيل، أو على الأقل لم يبدُ منها ذلك حتى الآن.
مع إنزال بايدن من مسرح الانتخابات الأمريكية، والدفع بنائبته هاريس، قيل على نطاق واسع إنها لن تستنسخ سياساته الخارجية.
تصريحات هاريس المبكرة بشأن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، أكدت المقولة ربما بأكثر مما كان متوقعًا، أما عزوفها في اللحظة الراهنة عن تكرار التصريحات ذاتها، فيرجع بالقطع إلى ضغوط اللوبي اليهودي، الذي يتحكَّمُ في الشبكة العصبية للانتخابات الأمريكية، “إن صح التعبير”.
ليس بوسعها بل ليس بوسع مؤسسة الحزب الديمقراطي، وإن أرادت، أن تتصدى تصديًا سافرًا، لضغوط الرأسمالية والإعلام وشبكة مصالح اللوبي اليهودي، في حين تقع صناديق الاقتراع على مرمى حجر.
صحيحٌ أن هاريس لن تنحاز، ولا يمكن لأي رئيس أمريكي أن ينحاز إلى حقوق الفلسطينيين، لا اليوم ولا في المستقبل القريب، لكن ذلك لا ينفي أنها قد تفسح مساحة سياسية، لم يوفرها سلفها أو منافسها.
في مناظرته ضد ترامب، التي أعقبها انسحابه، تنافس الرئيس العجوز وخصمه الجمهوري على لقب “رجل الضرورة الإسرائيلي”، فإذا كان بايدن هو أول رئيس يحطُّ على أرض مطار بن غوريون ليعلن دعمه لإسرائيل، وهي في حالة حرب، فإن ترامب هو الرئيس الذي باعَ الاتفاقات الإبراهيمية، لقاطني قصور الحكم العربية، قسرًا أو طوعًا، كما نقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة، في قرار لم يجرؤ أي رئيس أمريكي عليه.
كذلك مضى الرجلان في توكيد الولاء لإسرائيل؛ واحد يفخر بأنه “ورث صهيونيته عن أبيه”، والثاني يردد أنه “أفضل صديق للشعب اليهودي”، أما هاريس فتمشي على الحبال السياسية بحذر بالغ، وربما بخطوات بهلوانية في محاولة برغماتية، للعبور إلى المكتب البيضاوي.
فن الاختيار
المعلومُ أن فن الاختيار بين المتناقضات من صميم السياسة، التي “لا يوجد فيها أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، بل مصالح دائمة”، كما يقول رئيس وزراء بريطانيا التاريخي تشرشل.
اختبرنا بايدن متهافتًا إلى حد لا يتيح الجزم، بما إذا كان ضعف واشنطن يرجع إلى أن شراكتها الاستراتيجية مع تل أبيب فوق كل الاعتبارات، أم أنه لتعاطف الرئيس مع إسرائيل، أم لسببٍ يقع في “منزلة بين المنزلتين”.
ورأينا ترامب لا يستنكف عن إبداء البغضاء، لكل ما هو عربي، وكل ما هو إسلامي حين كان رئيسًا، ولا يتورع كذلك خلال مؤتمر انتخابي مؤخرًا، عن التشدق بأن مساحة إسرائيل صغيرة وعليها أن “تتوَّسع”.
إنْ استقرت مفاتيحُ البيت الأبيض، في قبضة ترامب، فإن نتنياهو قد يعدُّ ذلك فرصةً لإشعال حرب إقليمية، يُوِّرط فيها الولايات المتحدة، ومع الأخذ في الحسبان أن استراتيجية ترامب، ارتكزت في فترة رئاسته على تشكيل تحالف عربي إسرائيلي أمريكي لكسر شوكة إيران، فإن عودته رئيسًا ستعزز احتمالات الانفجار.
نجاح ترامب قد يُدحرِجُ كرة اللهب، من غزة إلى المنطقة بأسرها، وعندئذٍ لن توجد ضمانات للحيلولة دون أن تنشب ألسنتها في أنظمة عربية تملؤها التشققات، إثر فشلها المريع في النهوض بوظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهكذا فإن هاريس -وإن كانت بالطبع، ليست “المهدي المنتظر”، وليست “أم زيد الهلالي” التي ستأتي على صهوة جوادها المُطهَّم لإنقاذ الضحايا الفلسطينيين من جلاديهم الصهاينة- تملك ميزتين مهمتين؛ الأولى أنها ليست ترامب، والثانية أنها ليست بايدن.
الأمريكيون العرب فهموا ذلك، فإذا بأكثرهم يُبرمون مع الديمقراطيين تفاهمات انتخابية، ولو على سبيل “عصر الليمون” واختيار السيّئ لتجنب الأسوأ، لكن الغريب أن عواصمَ عربيةً، لا تزال تؤيد ترامب وتسير خلفه، كما تسير الشياه خلف قصَّابٍ يُضمِر حزَّ رؤوسها.