“جدوى السجون”.. قضية مثارة في ألمانيا!
يحتاج الإنسان الحر إلى فهم ما يجري في سجون الدول القمعية التي يغيب فيها القانون، ويطرح أسئلة مثل: لماذا يُحبَس الناس بسبب آرائهم وتوجهاتهم السياسية وجرائم لم يقترفوها؟ وإذا كان هذا في مفهوم البعض يدخل في نطاق العقاب كأحد وسائل الردع والتخويف داخل المجتمع، فإن الدولة ملزمة وفق الدستور بتبرير التدخل في تقويض حرية الآخرين، التي تُعَد من أقسى العقوبات في الغرب.
فراوكه روستالسكي، أستاذة القانون الجنائي والفلسفة القانونية في جامعة كولونيا وعضوة بمجلس الأخلاق الألماني، ترى أن عقوبات الانتقام بمنع الحريات ليست غاية في حد ذاتها، وأن من يريد معاقبة من قام بجريمة أو يتحفظ على مواطنين بنية الانتقام فعليه أن يواجه سؤالًا عن السبب الذي يدفعه إلى ذلك، وما الهدف الذي يسعى لتحقيقه من وراء ذلك؟
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتونس.. أن تصنع الوحش وتنتظر رحمته
هل أخطأ شيخ الأزهر حين قال: المفاضلة بين الأديان متروك لله؟!
ماذا لو فازت كامالا هاريس؟
سلب الحرية أقسي أنواع العقاب في ألمانيا!
في عام 2023، وصل حجم المسجونين في ألمانيا إلى 44 ألف سجين، وهنا راح المتخصصون القانونيون وعلماء النفس والاجتماع يهتمون ببحث دور السجن في إصلاح المعتقلين وتهذيبهم. فهل كل المسجونين يخضعون للعقوبة بسبب الجرم الذي اقترفوه أم هم مسجونون لردع الآخرين حتى لا يقوموا بالفعل نفسه؟ كما يقول المثل الشعبي “اضرب المربوط يخاف السايب”.
هنا ترى فراوكه روستالسكي أن العقاب يجب ألا يكون وسيلة لردع الآخرين بل للتواصل مع الجاني، ويجب ألا تعاقب الدولة مواطنيها من أجل العقاب نفسه، لأن سلب الحرية لمواطن يُعَد عقوبة غير مقبولة.
في ألمانيا، يهتمون بعقوبة سلب الحرية ويَعُدونها أشد أنواع العقوبات، أما التعذيب وإهانة المسجونين والحبس الاحتياطي فلم تصل بعد إلى نقطة نقاش القانونيين وعلماء الاجتماع الألمان.
ترى روستالسكي أن الردع الوقائي الذي قد يعرّض المواطنين للحبس يضع هذا النظام في أزمة، لأنه لا يمكن قبول سلب الحريات دون مبررات وحيثيات قوية تستند إلى الشرعية التي على أساسها يمكن تبرير العقوبات.
مفهوم العقاب بين الدول الديكتاتورية والديمقراطية
بعيدًا عن ما يجري في سجون الدول القمعية التي يعرفها الجميع، فإن هناك وجهتَي نظر أساسيتين يتبناهما المنظرون في ألمانيا: الأولى ترى أن العقاب هو رد فعل على فعل تم ارتكابه، ويُقصد من خلاله رد الظلم الذي وقع أو التعويض عنه. أما الثانية، فترى أن استخدام العقوبة قد يهدف إلى الوقاية، أي تحقيق تأثيرات داخل المجتمع تهدف إلى منع الجرائم المستقبلية.
لكن في السجون الممتلئة بالسجناء في الدول القمعية، الذين ترى الدولة أنهم أعداء لها، فما يجري هو نوع من الانتقام بالعقاب دون توضيح سبب ضرورة هذا الانتقام!! على عكس الدول الديمقراطية، فلا يمكن إلحاق الأذى بالعقاب، لأن الأذى الذي تعرّض له المجتمع من فعل غير قانوني لا يمكن الرد عليه من قِبل الدولة بأذى مماثل، وهنا يظهر الفرق الكبير بين قمع القانون في الدول الديكتاتورية وإعلاء القانون في الدول الديمقراطية.
النظريات الوقائية ليس لها علاقة بالعقاب الجنائي بشكل أساسي، لأنها لا تهتم بالمسؤولية الفردية أو ذنب الجاني، بل تركز على خطورته كمعيار أساسي لتحديد ما إذا كان يجب “معاقبته”.
قد ترى الدولة أن المسجون السياسي شخص خطير يجب التعامل معه لحماية المجتمع منه ومن أفكاره التي تهدد أصحاب الحكم. ويتم تحديد الخطورة سواء أكان المسجون مسؤولًا عن سلوكه أم لا وفق معايير أخرى كثيرة، مثل: هل لديه أفكار سيئة؟ نيات خبيثة؟ مخططات ضارة؟ ويرى بعض القانونيين الألمان أن أمر التحديد غريب جدًّا في هذه الحالة، لأن ارتكاب الجريمة ليس واقعًا وليس ضروريًّا هنا؟ فلماذا يتم اذن توجيه الاتهام ضد الفكر؟
قوانين الدول الحرة لا تُلحق الأذي بالمسجونين
النظريات الوقائية للعقاب يجب أن تستند على فهم عقل الجاني، فإذا كان الشخص غير قادر على التفريق بين الصواب والخطأ، وفي حال ارتكاب خطأ ما ثم العودة إلى الصواب والاعتراف بذلك، فيمكن الاهتمام بذلك. لكن في مفهوم النظريات الوقائية التي يتم التعامل بها، يُنظر إلى المواطن الذي ارتكب خطيئة على أنه شخص خطير يجب أن يُطبَّق عليه قانون الردع الوقائي بالسجن حتى ينتبه الذين لا يهتمون بالقانون من القيام بالفعل نفسه.
وفق القانونيين الألمان، يجب أن يُفهم العقاب بأنه أحد أشكال التفاعل المجتمعي مع الجاني، فالجاني لم يتبع القانون وهذا يتطلب ردًّا من المجتمع، وهذا الرد هو العقاب الذي يخضع له، أي إعلان الجاني بأنه ارتكب خطأ، ولكن لا يتم استخدامه لردع الآخرين.
هذه قراءة مبسطة وبعيدة عن تعقيدات القوانين، لكنها محاولة -كما قلنا في البداية- لفهم ما يجري في سجون الدول القمعية، والنظر إلى انتهاك القوانين فيها ومقارنتها بعقوبات الغرب التي تُعَد تدليلًا للسجناء مقارنة بها.