الإخوان والسياسة.. حان وقت الانفصال وفك الارتباط
من جديد عاد الحديث عن علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالسياسة، وذلك عقب الجدل الذي أشعله إعلان أحد الإعلاميين المصريين عن مبادرة على لسان د. حلمي الجزار مسؤول القسم السياسي بجماعة الإخوان.
أهم ما في التفاصيل ترك الجماعة ممارسة السياسة لمدة قد تصل إلى عشرين عاما، مقابل إخراج المعتقلين.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما تصبح الحرب هي الهدف
بايدن في سجن طرة!
مصرُ هبةُ الفتح الإسلاميّ
لكن الجزار سارع إلى إصدار بيان عبر حسابه على منصة “إكس” نافيا عزم الجماعة ترك ممارسة السياسة مؤكدا أن “عدم المنافسة على السلطة الذي أعلنته الجماعة، لا يعني أبدا الانسحاب من العمل السياسي، الذي يظل من ثوابت مشروع الجماعة الإصلاحي”.
البيان صيغ بعبارات ملتبسة، زادت الأمر غموضا، بمحاولته التفريق بين “العمل السياسي” و”المنافسة على السلطة”.
فالعمل السياسي ليس إلا سلما للوصول إلى السلطة، لتطبيق وتحقيق مشروع سياسي ما، كما تفعل الأحزاب في جميع الديمقراطيات، فلا يتصور عمل سياسي بدون سعي جاد إلى السلطة، وإلا لتحول إلى شكل من أشكال العمل الاجتماعي الذي تضطلع به منظمات المجتمع المدني وليس الأحزاب.
كما أن حديث البيان عن “ثوابت” يحول دون المراجعات الجادة لجملة الأفكار والممارسات، في ظل وجود منطقة -وربما مناطق- لها صفة القداسة، التي تحتم الابتعاد عنها، وتستوجب عدم نقدها.
كما أن الإصرار على الولوج إلى عالم السياسة عبر “مشروع الجماعة” وليس من خلال برنامج لحزب سياسي فعلي، لا مجرد واجهة لجماعة، يؤكد عدم استيعاب الجماعة لأخطائها الاستراتيجية حتى الآن.
الحصاد المر
نستطيع أن نميز في تاريخ الجماعة ثلاث محطات مهمة، تعرضت فيها لأضرار بالغة بسبب أخطاء استراتيجية، ألقت بالجماعة في أتون صراعات أكبر من طاقتها وإمكانياتها.
المحطة الأولى: امتدت من أواسط ثلاثينيات القرن الماضي إلى عام 1949، وهي الفترة التي قرر فيها المؤسس الأستاذ حسن البنا، زجّ الجماعة في أتون السياسة بعد نحو عقد من التأسيس “الدعوي”.
اختار البنا التحالف مع أحزاب الأقلية على حساب حزب الوفد صاحب الشعبية الجارفة.
لكن هذه المرحلة انتهت بكارثتين كبيرتين:
الأولى: حل الجماعة ومصادرة كل مؤسساتها، والاستيلاء على ممتلكاتها في ديسمبر/كانون الأول 1948.
وفي تقديري أن حل الجماعة يعود إلى سببين رئيسيين، الأول منهما يتعلق بنشاط التنظيم السري في مهاجمة محلات وممتلكات الأجانب في مصر، بحسب نص قرار الحل.
والثاني: دعم ومشاركة الجماعة لما عُرف بثورة اليمن الدستورية في فبراير/شباط 1948، التي شهدت مقتل الإمام يحيى واثنين من أبنائه وعدد من الوزراء.
تورط الإخوان في اليمن في تلك الفترة المبكرة، أدى إلى انتباه الحكومة المصرية وحكومات أخرى في المنطقة، إلى الخطر الذي قد يأتيهم من قبل جماعة عابرة للحدود، فكان قرار الحل.
أما الكارثة الثانية فتتمثل في اغتيال مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، في فبراير/شباط 1949 ردًّا على مقتل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي بواسطة التنظيم السري. فرحل البنا، وفي عقله الكثير مما لم يبح به بشأن الجماعة.
المحطة الثانية: الممتدة من 1952 إلى 1954 وانتهت أيضا بحل الجماعة وإعدام عدد من القيادات، وسجن آخرين لمدد طويلة.
وهذه المحنة لم تخضعها الجماعة لدراسة متأنية، رغم كونها الأشد ألما وقسوة، لسبب أساسي يتمثل في كون غالبية الضباط الذين استولوا على حكم مصر في 23 يوليو/تموز 1952، ممن مروا على الجماعة إما مبايعين أو مستمعين أو متعاونين.
المحطة الثالثة: وهي الممتدة من 2011 إلى 2013، وفيها حققت الجماعة ما كانت تحلم به على مدار عقود، لكن كل شيء -بدا فجأة- وكأنه صرح من خيال فهوى، فحلت الجماعة وعادت سيرتها الأولى من سجن ومصادرة أموال، ومطاردات، ومحاكمات.. إلخ.
المراجعات ليست ترفا
هذه المآسي التي مرت بها الجماعة، والتي هي عرضة للتكرار، تستوجب حركة مراجعات واسعة، تجيب عن أسئلة مهمة عن جدوى ممارسة السياسة، وهل تتناسب هذه الجدوى مع الفاتورة الباهظة التي تدفعها الجماعة في كل مرة؟!
كما أن هذه المراجعات مطلوبة لكشف الأسباب التي تؤدي إلى تكرار المحنة، ولماذا في كل مرة تم “عزل الإخوان عن الآخرين، فأمكن الانفراد بهم وضربهم معزولين” كما يقول المستشار طارق البشري.
حديث المراجعات لم ينقطع منذ يوليو/تموز 2013، من دون أن يكون لذلك الحديث أثر ملموس في عالم الأفكار.
والبيان الأخير للجزار يؤكد ذلك، حيث أراد أن يمسك العصا من المنتصف بالحديث عن ترك “الجماعة” المنافسة على السلطة، من دون ترك “العمل السياسي”.
كما بدا العرض وكأنه مقدمة لصفقة “تحرير المعتقلين السياسيين” في إطار ما أسماه “المبادرة الجادة”، علما بأن الأمر يتجاوز كونه إجراءً مطلوبا لإنهاء مأساة آلاف المعتقلين، إلى إصلاح الجماعة نفسها، ووضعها على المسار الصحيح.
من البنا تبدأ المراجعات
ينادي الإصلاحيون داخل الجماعة، بضرورة العودة إلى البدايات مدخلا مهما للإصلاح، لكن في تقديري أن المراجعات يجب أن تكون من البدايات، أفكارا وممارسات، لأنها هي التي قادت إلى كثير من الأخطاء التالية.
فرؤية البنا للجماعة التي طرحها في رسالة المؤتمر الخامس 1938، تعكس رغبة المؤسس في تأسيس مجتمع بديل، إذ عرف الإخوان بأنهم:
“دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية”.
لذا حاول البنا في حياته القيام بكل هذه المهام، اعتقادا منه أن ذلك يحقق شمولية الإسلام، فانتهت التجربة بحل الجماعة “الدعوية”.
ومع ذلك فالبنا نفسه كان يحاول تطوير أفكاره في حياته وسأضرب هنا مثالا واحدا: فبعد قول المرشد الأول، في رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين 1938 إن الإسلام “لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه”.
عاد سنة 1946 -بحسب شهادة الأستاذ فريد عبد الخالق- فطرح فكرة اندماج الجماعة مع الحزب الوطني، الذي أسسه مصطفى كامل باشا.
أيضا بدون اعتبار تجربة البنا مرحلة تاريخية، يؤخذ منها ويترك، سيجد الإخوان أنفسهم في جملة من التناقضات.
فمثلا ما طرحه الجزار بترك المنافسة على السلطة، يصطدم مع ما قاله البنا في رسالة المؤتمر الخامس: “وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه”، وقوله: “الحكم معدود من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع” رغم أنه عند التحقيق لا يعد الحكم وشؤونه ركنا من أركان الإسلام عند أهل السنة، الذين يعتبرونه من مسائل الفروع.
إذن يحتاج الإخوان اليوم إلى إعادة تعريف جماعتهم، بعيدا عن التعريف الفضفاض الواسع الذي خطه البنا للجماعة المتخيلة في ذهنه.
هذا التعريف الجديد يجب أن يراعي وضع الجماعة في مسار إصلاحي دعوي، من دون توريطها في السياسة بتقلباتها الحادة والعنيفة.
إن مراجعة أمينة من قبل جماعة الإخوان لأدائها السياسي، منذ التأسيس وحتى الآن، ستتوصل إلى نفس النتيجة التي يراها كثيرون بضرورة ابتعاد الجماعة عن السياسة والاكتفاء بالدعوة والإصلاح.