صندوق النقد: تصاعد العجز التجاري المصري في السنوات المقبلة
أصدر صندوق النقد الدولي الاثنين الماضي تقريرا حول المراجعة الثالثة لقرضه لمصر، التي وافق عليها مجلس مديري الصندوق أواخر يوليو/تموز الماضي، وتم بموجبها صرف 820 مليون دولار وهي قسط من القرض البالغة قيمته 8 مليارات دولار، وتضمن التقرير تعهدات الحكومة المصرية للصندوق بتنفيذ الإجراءات النقدية والمالية المتفق عليها. وتتضح أهمية التقرير من كونه يمثل المسار الاقتصادي الذي ستتبعه الحكومة المصرية حتى نهاية البرنامج مع الصندوق في سبتمبر/أيلول 2026.
ولأن الحكومة المصرية لا تنشر شيئا عن تفاصيل اتفاقها مع الصندوق، فسيكون هذا التقرير مرجعا للاقتصاديين لمعرفة الخطوات المطلوب من مصر اتخاذها مرحليًّا حتى نهاية برنامج القرض، وهي الخطوات التي تعهدت الحكومة بتنفيذها ضمن مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية التي قدمتها للصندوق.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدولة العميقة بين حضارتين
لا عزاء للدم الفلسطيني في المناظرة الرئاسية الأمريكية ولكن…
غموض التجارة الأردنية الإسرائيلية
وتضمنت الالتزامات المصرية تنفيذ نظام صرف مرن وحر، واستهداف خفض التضخم وإبطاء الاستثمارات العامة، والانسحاب التدريجي للدولة من النشاط الاقتصادي وخفض الدعم وخاصة دعم الوقود للوصول إلى توازن الأسعار مع التكلفة بنهاية العام المقبل، وزيادة الإيرادات الضريبية من خلال ترشيد إعفاءات ضريبة القيمة المضافة، كذلك الحد من إقراض البنك المركزي للهيئات العامة، وامتناع البنك المركزي عن أي إقراض مدعوم، وخفض الضمانات التي تقدمها وزارة المالية لاقتراض الجهات الحكومية.
لكن الحكومة المصرية ذكرت أن هناك أخطارًا يمكن أن تعطل تنفيذها لتلك الإجراءات، منها عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية والصراع الإقليمي بغزة ولبنان وباب المندب، وتداعيات ارتفاع التضخم وارتفاع تكلفة الاقتراض، إلى جانب الدين الحكومي المرتفع واحتياجات التمويل الاجمالية الكبيرة، وارتفاع الفائدة والاعتماد على التمويل المحلي القصير الأجل وضعف نشاط القطاع الخاص، وهي الأمور التي بررت الحكومة بها عدم تحقق مستهدفاتها من بيع حصص من الشركات المملوكة للدولة في العام المالي 2023/ 2024.
قانون جديد لضريبة الدخل
وكشف تقرير الصندوق عن التزام الحكومة المصرية بإصدار عدد من القوانين الجديدة، منها قانون جديد لضريبة الدخل يحد من الحوافز الضريبية لضريبة دخل الشركات، ويرشد الإعفاءات الضريبية، وقانون لتسريع حل المنازعات الضريبية، وتعديل لقانون ضريبة القيمة المضافة لترشيد الإعفاءات به، وقانون جديد للحماية الاجتماعية وقانون لسياسة ملكية الدولة.
كما تضمنت التزامات الحكومة المصرية مزيدا من الإفصاح والشفافية في البيانات المالية، ومنها نشر تقرير سنوي عن متأخرات الدفع لوزارة المالية من قبل الجهات الحكومية مثل: هيئة البترول وسكة الحديد والشركة القابضة للكهرباء ومصر للطيران وغيرها، ونشر تقارير سنوية مجمعة لأداء الشركات المملوكة للدولة.
لكن بعض تلك الوعود قد مضى موعده من دون تحقق، مثل وعد الحكومة بنشر النتائج الكاملة لمسح دخل الأسر الذي يكشف عن معدلات الفقر في شهر يوليو/تموز، ووعدها بعرض الاستثمارات المتوقعة للسنة المالية الحالية 2024/ 2025 بنهاية إبريل/نيسان الماضي، لجهات مثل العاصمة الإدارية وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية وهيئة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع، والوعد بعمل مؤشر لتتبع سياسة ملكية الدولة بنهاية يوليو/تموز الماضي، والوعد بنشر تقارير مالية نصف سنوية عن أداء هيئة البترول بنهاية يونيو/حزيران الماضي، وربما لذلك أجّل الصندوق موعد مراجعته المقبلة من سبتمبر/أيلول المقبل إلى أكتوبر/تشرين الأول لإتاحة المجال لتنفيذ الالتزامات.
ورغم إشادة الحكومة المصرية بما تحقق من تحسن لاستقرار سعر الصرف، وأرصدة النقد الأجنبي بالبنوك بعد صفقة رأس الحكمة، التي ساهمت في زيادة احتياطيات النقد الأجنبي وانخفاض الدين الخارجي، فإن توقعات الصندوق لأداء ميزان المدفوعات المصري في السنوات المالية الخمس الممتدة من العام المالي الحالي 2024/ 2025 الذي انقضى منه شهران، وحتى العام المالي 2028/ 2029 قد أشارت إلى توقعه تصاعدا للعجز في الميزان التجاري السلعي، من 38.5 مليار دولار في العام المالي الحالي إلى 45 مليار دولار في العام المالي المقبل، ثم إلى 53 مليار دولار في العام التالي ليواصل الارتفاع إلى 59 مليارا ثم إلى 67 مليار دولار في العام المالي الأخير، مع الأخذ بالاعتبار أن العجز التجاري هو السبب الرئيسي لتراجع سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار تاريخيا.
ضخامة تكلفة الدين الخارجي
ورغم توقع الصندوق تحقيق الميزان التجاري الخدمي فائضا في السنوات المالية الخمس المقبلة، بسبب إيرادات السياحة وقناة السويس وخدمات النقل، فإن العجز التجاري السلعي كان دائما أكبر من ذلك الفائض الخدمي، وعندما يضاف إلى ذلك العجز المستمر بميزان الدخل الأولي بسبب كبر قيمة فوائد استثمارات الأجانب الخارجة من مصر، فلن تفلح المعونات الأجنبية الضئيلة المتوقعة، وتحويلات العمالة المصرية بالخارج، في إنقاذ حساب المعاملات الجارية من حدوث عجز مستمر ومتزايد به في السنوات الخمس المقبلة.
ويزداد المأزق وضوحا حين توقع الصندوق بلوغ قيمة خدمة الدين الخارجي من أقساط وفوائد بالعام المالي الحالي 58.6 مليار دولار، كما توقع انخفاضها في السنوات التالية إلى 53.5 مليار دولار ثم إلى 49 مليار في العامين التاليين، ثم إلى 48 مليار دولار في العام الخامس، لتصل تكلفة الدين الخارجي في السنوات المالية الخمس إلى 258 مليار دولار.
ويتضح الأمر أكثر بمقارنة رقم تكلفة الدين الخارجي بالعام المالي الحالي المتوقع البالغ 58.6 مليار دولار، بباقي نوعيات موارد النقد الأجنبي في نفس العام، البالغة 36 مليار دولار للصادرات السلعية موزعة بين 9 مليارات لصادرات النفط والغاز الطبيعي وحوالي 27 مليار لباقي أنواع الصادرات السلعية، كما أن رقم تكلفة الدين الخارجي يكاد يكون ضعف الصادرات الخدمية البالغة 32 مليار دولار، موزعة بين السياحة وقناة السويس وخدمات النقل والخدمات المالية والتشييد وغيرها.
ونفس الأمر بمقارنة تكلفة الدين الخارجي بتحويلات العمالة المصرية بالخارج التي توقع بلوغها 34 مليار دولار، أو بصافي الاستثمار الأجنبي المباشر البالغ 11 مليار دولار أو بصافي استثمارات الحافظة التي تتضمن شراء الأجانب لأدوات الدين الحكومي البالغة 6.5 مليارات دولار.
ورغم حصول وزارة المالية على حصة من أموال صفقة رأس الحكمة قللت بها من نسبة العجز بالموازنة في العام المالي الأخير، فإن توقعات الصندوق تشير إلى استمرار العجز النقدي والعجز الكلي بالموازنة المصرية في السنوات المالية المقبلة، والأمر الأهم هو استحواذ فوائد الدين الحكومي المحلي والخارجي على النسبة الكبرى من مصروفات الموازنة، وهو ما يأتي على حساب مُخصصات الدعم والأجور والاستثمارات.
فقد بلغت حصة فوائد الدين المتوقعة في العام المالي الحالي 53.5% من مجمل المصروفات، مقابل 25.5% للدعم وسداد مستحقات التأمينات الاجتماعية على الخزانة العامة، وأقل من 13% للأجور و11% للاستثمارات الحكومية المخصصة للتعليم والصحة والمرافق، وأقل من 4% لكلّ من شراء مستلزمات إدارة دولاب العمل اليومي بالجهات الحكومية والمصروفات الأخرى.