خالد منتصر يفكر.. والحشرات أيضا!
لا أجد سببًا وجيهًا لاستحواذ الطبيب خالد منتصر، على لقب مفكِّر، وفق مدلوله المتعارف عليه، ويعني أن لصاحبه إسهامًا فكريًا ما، أو منتجًا ثقافيًا ذا تأثير في حركة التاريخ، أو على الأقل في مجتمعه.
لم يأتِ بما لم تستطعه الأوائل، نعم، إنه يفكِّر، ولكن هل هذه خاصية ينفرد بها؟
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدولة العميقة بين حضارتين
لا عزاء للدم الفلسطيني في المناظرة الرئاسية الأمريكية ولكن…
غموض التجارة الأردنية الإسرائيلية
كل الكائنات تقريبًا تفكر، بالدرجة التي تكفل لها البقاء، كالقردة والفئران واللواحم المفترسة، بل إن حشرة الدبور، على هوان قدرها، ووفقًا لبحث نشرته دورية “بيولوجي ليترز”، وأجراه فريق من جامعة ميتشغان قبل خمس سنوات، تفكّر تفكيرًا منطقيًا استدلاليًا.
إنْ كانت الحشرات تفكر، فلا بأس إذنْ في أن خالد منتصر يفكر، لكنه بالتأكيد ليس مفكّرًا.
تشبه أفكاره إلى حد كبير، برامج الطبخ على فضائيات عربية، لا يكاد مشاهدوها يجدون الخبز من غير غموس، لكنها تقدم وصفات تتكون من ذيل السالمون النرويجي، وعشبة إكليل الجبل، وشرائح فطر عيش الغراب، وصلصة “هابانيرو رانش”، التي يُفترض توافرها في ثلاجات العامة!
تحديث عبر وصفة غربية
ينشد تحديثًا على النسق الأوروبي، وتحديدًا على غرار الإصلاح الكنسي في القرن السادس عشر، ذلك رغم اختلاف الظروف، وتباين السياق الحضاري والتاريخي.
قبله بعقود، ذهب مفكرون “حقيقيون” منهم طه حسين، إلى أن على الشرق، إنْ أراد النهوض من عثراته أن يتبنى الثقافة الغربية، وينضو عنه رداء العروبة والإسلام، ومنهم مَنْ تراجع عن أفكاره قبل أن يلقى ربه، ومنهم مَن أصرَّ عليها حتى الرمق الأخير، لكن في المحصلة، تبددت تلك الأفكار كصرخات في البرية، لكونها منبتّة الصلة عن واقعها الحضاري.
من الأمثلة الهزلية على معارك تلك المرحلة، ما سمي بمعركة “الطربوش والعمامة والبرنيطة”، التي تفجرت إثر سؤال وجهته الرابطة الشرقية برئاسة نقيب الأشراف آنذاك، عبد الحميد البكري، سنة 1962 إلى جمعية الأطباء بالقاهرة، لإبداء الرأي في أيهما أفضل من الناحية الصحية اعتمار الطربوش أم العمامة؟
ومع احتدام المعركة، دخل “أنصار البرنيطة” على الخط، فنادى المنادون بعدم اعتمار الطربوش، الذي يمثل ثقافة الدولة العثمانية الآفلة، ولا العمامة المتخلفة، والاستعاضة عنهما بالبرنيطة الغربية، لكونها من مظاهر التحضر.
كانت تلك بالطبع واحدة من المعارك التافهة، إذ تعلقت بالقشور ولم تدخل في صلب المشكلات الحقيقية، فكذلك يفعل المهزومون، يُحاكون المتغلَّبين ليتجاوزوا شعورهم بالهزيمة.
للكاتب الأمريكي توماس فريدمان عبارة سمجة: “لم تندلع حرب بين دولتين يتناول مواطنوهما البرجر الأمريكي”.
بعيدًا عن تهافت المقولة، التي تعبر عن الصلف الأمريكي، فالمؤسف حقًا أن كتابًا “أو أصحاب لقب مفكرين” عربًا يتشدقون بخرافات على هذه الشاكلة، وكأن التخلي عن الهوية الحضارية، سيُدخلنا فورًا إلى نادي المتحضرين.
من سمات مصر الحضارية، أن مكوناتها متمازجة متصالحة، وتلك حقيقة لم يتجاوزها مسيحيون مستنيرون بحقّ، مثل الراحل لويس جريس الذي كان يقول إنه أحب المسيح من القرآن الكريم، ولا اليهودي شحاته هارون، الذي يروي في سيرته الذاتية “يهودي في القاهرة” أن أباه استقدم له مُحفّظ قرآن أزهريًا، حين أراد تعليمه العربية.
أزمات أعمق من “أحاديث الإلهاء”
لدينا في مصر تحديدًا والمشرق العربي إجمالًا أزمات، أكثر إلحاحًا من “أحاديث الإلهاء” التي يستغرق فيها منتصر والذين معه، لكنه وأمثاله يختارون المعارك الآمنة، فيدعون البطولات العنترية في ساحاتها.
خذ مثلًا، قبل أيام عقد منتصر عبر صفحته على “فيسبوك” مقارنة بين الحملة الفرنسية والفتح الإسلامي، فطرح تساؤلًا لزجًا، هذا نصه: عدد الباحثين والعلماء اللي سافروا مع نابليون 176 باحثًا وعالمًا.. ما هو عدد الباحثين الذين أتوا مع عمرو بن العاص؟
دع عنك الصياغة المفككة، فالصحيح أن يقول كم عدد الباحثين، وليس ما هو، والظاهر أنه لم يدرس في المرحلة الابتدائية علامات الاستفهام، والصحيح أن يقول وفدوا مع نابليون أو أتوا معه أو استقدمهم، لكن هذا متوقع منه، فالرجل لا يحب العربية لغةً وثقافةً وحضارةً، فإذا بالاحتلال الفرنسي، خيرٌ عنده من الفتح الإسلامي.
القول بأنه يكره العربية ليس تهمة بغير دليل، فقد سخر من قرار وزير التربية والتعليم تخصيص 25% من المجموع للغة العربية، قائلًا إن التقدم بالفيزياء والرياضيات وليس بأخوات كان.
هل ثمة تعارض بين دراسة الرياضيات والفيزياء وإتقان العربية؟
الإجابة بديهية بالقطع، وسهلة بقدر سطحية السؤال وتفاهته.
بعيدًا عن مسألة العقيدة، واتصالًا مجردًا بالثقافة، فإن مقارنة الفتح الإسلامي لمصر، بأي حدث في تاريخها الذي يمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة، تؤكد أن الآثار الثقافية والحضارية والمعرفية لدخول الإسلام المحروسة، أعمق من أي متغير آخر.
يكفي أن مصر التي لم تكن عربية حتى سنة 640 ميلادية، قد صارت قائدة أمتها ومركز الإشعاع في بُعدها العربي، فإذا هي تاج العلاء في مفرق الشرق، كما يقول شاعرنا حافظ إبراهيم، في القصيدة التي تغنت بها “كوكب الشرق” أم كلثوم.
لا يحتاج منتصر تفنيد مقولاته لتأكيد هشاشته الفكرية، لكن لا بأس من مثال آخر، إذ انتقد بطلًا أولمبيًا، لقوله إن حيازته ميدالية برونزية يرجع إلى اجتهاده في التمرين، والتزامه قيام الليل وقراءة سورة البقرة.
تعليقًا على ذلك مضى منتصر إلى الدرك الأسفل من التفاهة إذ قال: “يا ريتك كمّلت بالبخاري وفتاوى ابن تيمية وكنت جبت لنا الذهبية”.
أي منطق “عقلاني” لا يسوّغ هذه الحماقة، وأي تفكير موضوعي لا يجد في هذا الكلام إلا هراء.
اللاعب لا يتبنى “الدروشة”، لكنه إعمالًا لما يؤمن به كل مسلم، قال إنه عَمِل واجتهد ثم توّكل على الله، فلماذا يُسفه منتصر ذلك؟
يهاجم القيود التي تفرضها حركة “طالبان” في أفغانستان على حرية الإعلام، ويغمض عينيه عن واقع حرية الصحافة في مصر، ولم يُضبط مرةً واحدة وهو يدافع عن صحفي خلف القضبان، لمجرد أنه عبّر عن رأيه.
تقع جريمة إرهابية في دولة غربية، فيهرع إلى اتهام “الإسلاميين”، ومتى تُظهر التحقيقات أن مرتكبها ليس مهاجرًا وليس مسلمًا، يبلع لسانه ولا يعتذر.
يدافع عن حرية ارتداء “المايوه البكيني”، ويحجر على حرية ارتداء الحجاب.. هكذا هي العلمانية والليبرالية، وفق مقاييسه أو مقاساته.
سيبقى منتصر حيث هو، وسيظل أتباعه حيث هم يجترون مقولاته، كما تجتر النوق ما في جوفها، وسيبقون منفصلين عن الناس، لأنهم اختاروا الانفصال عنهم، وسيذهب هو وهم جفاء.