البكائيات وموقف التاريخ منها
المحن والابتلاءات سنة من سنن الله عز وجل في الدعوات، خاصة حين تتعلق بالعقيدة والثقافة وتغيير سلوكيات المجتمعات والشعوب، أو حين تتعلق الدعوة بنبذ معظم الموروثات التي نشأ الناس عليها وألفوا عليها آباءهم وأجدادهم.
وقد دفع الأنبياء والمصلحون ثمنا باهظا وصل في معظم الأحيان إلى أمانهم وراحتهم، بل وحياتهم في سبيل نصرة دعواتهم ونشرها بين الخلق، كذلك فعل أتباعهم الذين آمنوا بأفكارهم. ويذكر التاريخ تضحيات عظيمة في خضم نشر الأفكار الإصلاحية أو العقيدية، نتجت عن صدامات غريزية وحتمية لم يكن من الممكن تجنبها، حتى تنتصر أو ينتصر الخصم، ثم منهم من تدفعه الهزيمة إلى مراجعة وسائله وتقوية ذاته والتأهب لجولات أخرى يصحح فيها أخطاءه السابقة، أو يستكمل فيها عدته، ومنهم من يضطر إلى الاستسلام والاعتراف بعدم القدرة على استكمال أداوته ليستبدل بآخرين يمتلكون القدرة والمرونة على تغيير استراتيجياتهم للمواجهة من جديد، وتبقى الفكرة ما بقي لها رجال يتحلون بالمرونة السلوكية والثبات الفكري.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدولة العميقة بين حضارتين
لا عزاء للدم الفلسطيني في المناظرة الرئاسية الأمريكية ولكن…
غموض التجارة الأردنية الإسرائيلية
وأفرز التاريخ وجوها أخرى تتقن صناعة “البكائيات”، هم من أصحاب الهزائم المتكررة، والمتاجرين بها والعائشين عليها، يستعطفون التاريخ ظنًّا منهم أنهم خادعوه، لكنهم في حقيقة الأمر ومهما طال بقاؤهم مهزومون وإن أسموا الهزيمة ثباتا، أو ابتلاءً، أو سنة من سنن الله، وفي الوقت الذي يتمكنون فيه من التدليس على البعض، تجري أقدار الله في طريق الاستبدال، وسنن الله التي لم تحاب أحدا يوما.
الابتلاء والهزيمة
تواترت آيات الله عز وجل بوعد رب العالمين لعباده المجاهدين بالنصر والتمكين فيقول تعالى في سورة غافر: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، وذلك حين يبذلون الأسباب كاملة في إطار قدراتهم البشرية المتاحة، وتحت مظلة الإعداد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فحدود الاستطاعة الكاملة هي مناط التكليف، وموضع السؤال: ماذا قدمت؟ ولماذا قصرت؟ ونصر الله آت طالما قدمت ولم تقصر حتى لو تطاول الباطل حينا، لكنه لا يطول أمده حتى لا يكون فتنة للمستضعفين، فيقول رب العزة في آل عمران {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
وفرق كبير بين الابتلاء المقدر من الله عز وجل على أصحاب الدعوات، والمحن التي يمرون بها لتمحيصهم واختبار ثباتهم، وبين الهزائم التي قد تحدث لأسباب مختلفة. ويخلط البعض بين المفهومين فيدعي زورا أن الهزيمة مجرد محنة مقدرة فيسكن منتظرا فرجًا لن يأتي إلا بالمزيد من الهزائم والخسائر، وكأن إرادة الله عز وجل قد اتفقت على ضعف أصحاب الحق عبر التاريخ وتعذيبهم ومذلتهم على يد عدوهم، فلا يتهمون أنفسهم بالتقصير وربما بالانحراف عن المنهج الذي وضعه الله للبشرية والسنن التي سنها لتسيير كونه من أن النصر وحصد النتائج مرتبطان بالسعي وبذل الأسباب وحسن التوكل على الخالق.
إن الابتلاء هو اختبار الثبات والعمل وهو ثمن الإيمان الذي يجب دفعه قبل الوصول إلى النصر وترجيح كفة المؤمنين.
أما الهزيمة فهي عقاب التقصير في تحمل المسؤولية.
ولا نصر إلا بالثبات عند المحنة في الحالة الأولى، ولا نصر إلا بالاعتراف بالهزيمة في الحالة الثانية، فعدم الاعتراف بها يعني الإصرار على الاستمرار فيها دون رؤية الحقيقة الواضحة؛ مما ينذر بطول مكث فيها ربما لأجيال متعاقبة حتى يتم استبدال أصحابها بآخرين.
فنون توظيف نظرية المؤامرة
ويتعلل أصحاب الهزائم المستمرة بنظرية المؤامرة، فالعدو متربص دوما، يفسد كافة محاولات الإصلاح، ونسي هؤلاء أن قضية الصراع بين الحق والباطل هي قضية أبدية ما بقيت الحياة على الأرض، فلن يكن العدو إلا متآمرا، ولكن عليهم في المقابل ألا يكفوا عن تقوية صفوفهم واتخاذ الأسباب لتقويض ذلك التآمر ودحره والعمل على غلبة الصف المسلم لضمان حماية الفكرة وأهلها، فالتعلل بالتآمر كمن يريد أن يوقف حركة الحياة وسنة الصراع في الأرض، فهو بين أمرين، أحدهما عدم الفهم، والآخر أن يكون هو نفسه مشاركا إن كان ثمة مؤامرة. إن وعد الله للمؤمنين لم يتوقف عند الغلبة على عدوهم، وإنما امتد إلى الاستخلاف وهيمنة الدين كما ذكر الحق سبحانه في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، فإن لم يحدث رغم الاستضعاف شرط تقديم ما في الاستطاعة، فهناك خلل ما يرجع غالبا إلى سوء الإدارة، وهم لم يستحقوا نصر الله بعد، أو تغليب المصلحة الخاصة لقيادات العمل دون النظر إلى مآلات تلك المصالح والخسائر الجمة التي يمكن أن تنبني عليها في الصف والمقدرات، فهم لم يحققوا الشرط، ولم يعد من حقهم المطالبة بالنتائج كما في سورة محمد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
البكائية الأولى في التاريخ الإسلامي
مثلت حادثة الصحابي خباب بن الأرت رضي الله عنه البكائية الأولى في تاريخ الأمة، حين ذهب هو ومجموعة من الشباب للشكوى من الوضع القائم وطلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم برفع الابتلاء، ونجد أن رد النبي “مختلف”، النبي القائد، المربي، المعلم، صاحب الرسالة، لم يغضب لمجرد شكوى أتباعه من طول البلاء، وإنما غضب للروح الانهزامية التي رآها في شكوى خباب، روح اليأس والخوف واللطم التي لا ينبغي أن يتسم بها من يريد بناء الأرض، وتظهر حدة غضب النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه من اتكائه، وتعنيف الشباب بتذكيرهم بمن كانوا قبلهم، كيف كان صبرهم وتحملهم، ثم قسمه عليه الصلاة والسلام بانتصار هذا الدين وهو لا يحتاج إلى أن يقسم، فالدعوات لا تنتصر بالبكاء والضعف والخنوع، وإنما تنتصر بالعزة وتحمل الشدائد والعمل على إزاحتها ولو بالهجرة قبل أن يقع صاحبها في براثن اليأس والبكاء.
وتلك بكائية أخرى
“ابك بكاء النساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال”.
هكذا قالت أم الأمير أبي عبد الله الصغير حين وقف باكيا وهو يودع غرناطة بعد حكم المسلمين لها سبعة قرون ولم يدافع عنها كما يفعل الرجال، وهكذا يقر التاريخ بأن البكاء على الأطلال والهزائم والانبطاح للعدو إنما هو فعل النساء وليس فعل الرجال، هو هزيمة منكرة لا تليق برجال وطنوا أنفسهم لخدمة أفكارهم ومعتقداتهم، عاشوا بها وعملوا لها، إن حركة التاريخ تؤكد أن البكائيات لا تعيد وطنا مغتصبا، ولا تصنع حاضرا كريما، ولا تغري سطور التاريخ بتغيير مسميات الأحداث من الهزائم إلى ملاحم، ومن التقهقر والتراجع والسكون إلى الصبر والصمود والثبات، إنما الصبر للعاملين وليس القاعدين، والصمود لمن يتقدم وليس لهؤلاء القابعين ينتظرون هزائم أخرى لا يدفعون ثمنها بقدر ما يدفع الأتباع من حاضرهم ومستقبل أبنائهم، لقد سقطت الخلافة الأموية ولم يعدها البكاء، وسقطت الخلافة العباسية دون أن يجدي الندم، وسقطت العثمانية، وسقطت جماعات ولن يجدي أن تكون الدموع دما، فليعتبر من يريد ويصحح الوجهة قبل السحق تحت عجلات التاريخ.