اغتيال إسماعيل هنية.. جدل الواقع والمأمول

مظاهرات في إسطنبول بعد صلاة الغائب على روح الشهيد إسماعيل هنية (الفرنسية)

في كثير من قضايانا الكبرى يقع الكثيرون فريسة الجدل بين التفكير الواقعي والتفكير الرغائبي، بين تغليب المنطق والواقع، وتغليب العواطف والمشاعر والتمنيات في تحليل الأحداث والتحولات السياسية التي تمر بها منطقتنا وأمتنا.

وقد ثار هذا الجدل مع قيام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما ترتب عليها من تداعيات كونها واحدة من أكبر المواجهات إن لم تكن أكبرها من حيث نتائجها على الكيان الصهيوني، في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.

ومنشأ هذا الجدل ما تعرضت له الأراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني بل وقيادات حركات المقاومة الفلسطينية من عمليات استهداف ممنهج للبنية التحتية في قطاع غزة، وإبادة جماعية للشعب وتهجير قسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين، وسقوط نحو 140 ألفًا بين شهيد وجريح خلال عشرة أشهر بعد طوفان الأقصى.

وكذلك الاستهداف الممنهج للقادة سواء عبر العمل العسكري المباشر داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء في الضفة أو قطاع غزة، أو عبر عمليات الاغتيال داخل فلسطين وخارجها، حيث سقط شهيدًا في لبنان نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري في الثاني من يناير/كانون الثاني 2024، وصولًا إلى استشهاد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران في الحادي والثلاثين من يوليو/تموز 2024.

لم يكن العاروري أول القادة الذين تغتالهم يد العدوان الصهيونية، ولن يكون هنية آخرهم، فستبقى هذه الجرائم قائمة، ما بقي هذا الكيان قائمًا، وما بقيت الصهيونية العالمية تقف خلفه وتوفر له كل صور الدعم، دون خطوط حمراء.

ماذا استفادت حماس بعد عشرة أشهر من الطوفان؟

سؤال كبير يطرحه الكثيرون، ما الذي حققته حماس لذاتها كحركة، ولقياداتها كرموز سياسية، ولشعبها كحاضنة، ولأسراها كهدف بعد هذا الكم من الدماء التي سالت والحرمات التي انتُهكت، والقادة الذين استشهدوا، والأرض التي أبيدت؟

هذا السؤال مهم، وإن كان حقًّا وواجبًا طرحه في عملية التقييم والتقويم، إلا أن الأغلبية العظمى ممن يطرحونه يريدون به باطلًا، وهو تحميل حماس المسؤولية عن كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن.

ويتناسى هؤلاء وغيرهم أن ما قامت به حماس هو واجب إن لم يكن فرضًا عليها، لأن هناك عدوًّا يغتصب الأرض منذ أكثر من قرن، وينتهك العرض ويحاصر البشر ويحرق الشجر، وشن خمس حروب كبرى على قطعة أرض لا تزيد مساحتها على 360 كيلومترًا مربعًا، ويقطنها أكثر من مليونين ونصف المليون شخص فقط خلال خمسة عشر عامًا، بداية من عملية الرصاص المصبوب أو معركة الفرقان في 2008-2009، ثم عمود السحاب أو حجارة السجيل في 2012، ثم الجرف الصامد أو العصف المأكول في 2014، تلتها صيحة الفجر 2019، وحارس الأسوار أو سيف القدس عام 2021، وصولًا إلى طوفان الأقصى 2023.

وفي كل مرة يكون الصهيوني هو المعتدي، هو الذي يحاصر، هو الذي يبيد، هو الذي يبادر وهو الذي يفرض وقت التوقف، وما إن امتلكت حركات المقاومة القدرة على المبادرة، خرج البعض ليقول: ماذا استفادت؟ ويتهمها بالعدوان، وهي بالأساس تحارب ضد عدو محتل، مقاومته حق مشروع في كل مكان وزمان دون قيد أو شرط.

سياسات الاغتيالات الصهيونية وصولًا إلى هنية

منذ تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كانت قياداتها السياسية والعسكرية هدفًا لاغتيالات نفذها الاحتلال الإسرائيلي داخل فلسطين وخارجها، وعلى رأس قادة الحركة الذين اغتالهم الصهاينة، مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين عام 2004، صلاح شحادة 2002، إبراهيم المقادمة 2003، عبد العزيز الرنتيسي 2004، سعيد صيام 2009، نزار ريان 2009، وصولًا إلى صالح العاروري في يناير 2024، ثم رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية في 31 يوليو/تموز 2024.

بين اغتيال ياسين وهنية عشرون عامًا، جرت فيها مياه كثيرة في مسار القضية الفلسطينية، ومسار حركاتها المقاومة، وأصبح أبناء أحمد ياسين يمتلكون من الإمكانات والقدرات ما يستطيعون به تحقيق إنجاز بحجم طوفان الأقصى، وأن يصبح هنية -رئيس المكتب السياسي للحركة- محلًّا للاهتمام في معظم دول العالم، وعلى كل المستويات.

حتى كانت مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان في العاصمة الإيرانية في 30 يوليو 2024، ثم إعلان استشهاده في اليوم التالي مباشرة في عملية أمنية نفذتها الصهيونية العالمية، وجاءت هذه العملية في إطار عدد من السياقات الشديدة الأهمية، تمثل ضوابط أساسية لتحليل المشهد، ومحاولات التنبؤ بمساراته المستقبلية.

من استهداف الصهاينة للقنصلية الإيرانية

إلى استهداف الحوثي لقلب تل أبيب

أولها: قيام الكيان الصهيوني في الأول من إبريل/نيسان 2024 باستهداف القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية وسقوط عدد من القتلى من بينهم قادة في الحرس الثوري الإيراني، ثم قيام إيران ولأول مرة منذ ثورتها عام 1979 باستهداف الداخل الإسرائيلي مباشرة في عملية أطلقت عليها الوعد الصادق في الثالث عشر من الشهر ذاته.

ثانيها: وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وعدد من كبار المسؤولين الإيرانيين أثناء رحلة جوية داخل إيران، وخروج بعض التحليلات التي تربط بين الحادث وتورط الكيان الصهيوني، وهو اتهام لم توجهه إيران إلى الكيان، لأن مجرد توجيهه يفرض على إيران إعلان الحرب مباشرة على الكيان، لذلك ذهب البعض إلى رفض هذا التفسير، ما دامت إيران لم تؤكده.

ثالثها: نجاح حركة أنصار الله الحوثي اليمنية في ضرب العمق الإسرائيلي بالمسيَّرة يافا في التاسع عشر من يوليو 2024، والرد الصهيوني باستهداف ميناء الحديدة، أهم الموانئ التي يعتمد عليها الحوثيون في علاقاتهم الخارجية.

من تصريحات نتنياهو أمام الكونغرس

إلى تصريحات أردوغان أمام حزبه

رابعها: إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن انسحابه من الترشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في الخامس من نوفمبر/تشرين الأول 2024، ودعمه لنائبته كامالا هاريس لتكون مرشحة الحزب الديمقراطي، وبعدها بأيام، وتحديدًا في الرابع والعشرين من يوليو، ألقى رئيس حكومة الكيان الصهيوني خطابًا أمام الكونغرس الأمريكي، تم استقباله فيه استقبال الفاتحين المنتصرين، تأكيدًا للدعم الأمريكي غير المحدود للكيان وسياساته.

خامسها: عملية قرية مجدل شمس في الأراضي السورية المحتلة بهضبة الجولان، في السابع والعشرين من يوليو، حيث سقط صاروخ أسفر عن مقتل وإصابة عدد من سكان القرية، وقيام الكيان الصهيوني بتوجيه الاتهام إلى حزب الله اللبناني، ثم قيام جيش الاحتلال باستهداف الضاحية الجنوبية في لبنان، حيث المقر الرئيس للحزب، وسقط في هذه العملية القائد الثاني في الحزب فؤاد شكر.

سادسها: تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الثامن والعشرين من يوليو، أثناء اجتماع لحزب العدالة والتنمية الحاكم في مدينة ريزا التركية مسقط رأسه، التي كان من بينها “ماذا كان وضع الصادرات والواردات من الصناعات الدفاعية؟ وإلى أين وصلنا؟ لا ينبغي أن تغرنا أي من هذه الأمور. يجب أن نكون أقوياء جدًًّ حتى لا تستطيع إسرائيل أن تلعب مع فلسطين بمثل هذه الأمور”.

وأضاف “كما دخلنا إلى كاراباخ، وكما دخلنا إلى ليبيا، يمكننا فعل الشيء نفسه معهم (في إشارة إلى إسرائيل)، لا يوجد شيء يمنعنا من ذلك. فقط يجب أن نكون أقوياء لكي نستطيع اتخاذ هذه الخطوات، وإذا قلنا شيئًا نفعله”.

وهي التصريحات التي تعاملت معها حكومة الكيان بردود غاضبة، وطالبت بطرد تركيا من حلف شمال الأطلسي (الناتو).

الكيان الصهيوني ورسائل الاغتيال والردع المنتهك

هذه السياقات وغيرها، وما بينها من ترابط وتشابك وتعقيد كبير، لا يمكن فصلها عن عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران، والرسائل التي أراد جيش الاحتلال وحكومة الكيان توجيهها إلى الجميع داخل الإقليم وخارجه، فهذا الجيش سقطت أسطورته، وهذا الكيان تبددت أوهامه مع طوفان الأقصى، لذلك أفرط في التدمير والإبادة الجماعية واغتيال قادة المقاومة، آملًا أن يستعيد قدرته على الردع، في مواجهة مَن يُسوّق لهم نفسه أنه الحامي والضامن والدرع ورأس الحربة المتقدم.

إلا أن الحقيقة المؤكدة، وبعيدًا عن التحليل الرغائبي، أن ما بعد الطوفان لم ولن يكون كما كان قبله وخاصة بالنسبة للكيان، فقد سقطت كل أساطيره وأوهامه، وأدرك الكبير والصغير في المنطقة والعالم أن هذا الكيان لا قيمة له دون الدعم المفتوح من جانب الولايات المتحدة، ومنظومة الناتو، وشركائهم في الإقليم، وأنه لولا هذا الدعم لانهار هذا الكيان أسرع مما يتصور الجميع.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان