لماذا فشل التونسيون؟

كنا نذهب إلى تونس على مدى نحو 10 سنوات بعد الثورة، لنتعلم مما بدا لنا ورشة عمل كبرى لشق الطريق الصعب المتعرج إلى التغيير، والخروج من الاستبداد والفساد، ومن أجل الديمقراطية والمواطنة والحريات والحقوق وتداول السلطة.
وكغيري من صحفيين ومراقبين عرب وأجانب، تابعت على الأرض هناك من العاصمة إلى أصغر البلدات النائيات، نقاشات وتجارب ونجاحات وإخفاقات غير محسومة، في عالم عربي مضطرب، لكن في أرجائه من يتعطشون لنجاح طال انتظاره لنموذج ديمقراطي، يحدوهم أمل بزغ كضوء في نهاية نفق. وهذا بعدما غلب على التركيبة السكانية لمجتمعات عالمنا العربي شباب منفتح على عصره، بفضل ثورة الاتصالات والمعارف والاحتكاك بالخارج، يقتحم المجال العام والسياسة.
من أسباب الفشل
قبل سنوات من حدث 25 يوليو/تموز 2021، كانت تونس تجاهد للإفلات من ضغوط إقليم لا يرضى ولا يقبل بثورتها ونتائجها، ويخاف عواقبها وانتشارها. وكأن هذا “الاستثناء التونسي”، الذي كان، يقاوم الضياع في محيط مناوئ، تترصده وتطارده ديناصورات العصور البائدة المدججة بالمال والميديا وأحدث مقتنيات التكنولوجيا وبالماضي وتقاليده غير الديمقراطية، إلا أن العوامل الخارجية -على خطورتها وتأثيرها- لم تكن محل الاهتمام الواجب.
اقرأ أيضا
list of 4 items«طلعت حرب راجع».. مؤتمر وصاحبه غائب
نتنياهو في المصيدة السورية
سعد الهلالي والبحث عن الفتاوى الشاذة
وسرعان ما بلغ إحباط عموم التونسيين والمؤملين في التغيير، إزاء البطء في تحقيق أهداف الثورة وغاياتها في التنمية والتشغيل والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد، حد “عدمية” المساواة بين ما تحقق والقبول بانقلاب يصب في طاحونة الثورة المضادة والماضي، ويعيد مجتمعا مؤهلا بحكم تجانسه السكاني، وفي طليعة “الحداثة ” بين العرب، إلى حالة الاستبداد والتخلف العربية السائدة المديدة.
في البحث اليوم، وبعد 3 سنوات من الانقلاب على مسار عسير نحو التغيير والديمقراطية، عن أسباب هذا الفشل التونسي، انطلاقا مما أشرت إليه للتو، لا يمكن إعفاء النخب التونسية المختلفة من مسؤوليتها عن هذا المآل.
وشهادتي المتواضعة، بصفتي صحفيا زائرا ومراسلا مقيما في تونس بعد الثورة، أن قطاعا مهمّا من النخب التونسية لم يثمن ما تحقق على صعيد مساحات الحريات والحقوق، وبناء المؤسسات، وفصل السلطات وتداول السلطة سلميا، والتعافي من حكم الفرد وعبادته. ومن ثَم لم يعمل للحفاظ عليه، ومعالجة ما يعترضه من سلبيات وإخفاقات وتشوهات، وحتى أوجه فساد.
ومن جانب آخر، بالغ البعض الآخر في تقدير ما تحقق، ورآه كافيا وغاية المراد، و”بزيادة على العباد”. وبالتالي تنكر للاعتناء بتحصين هذا التقدم، وظل على استعداد دوما للخروج من معركة العمل للتقدم خطوات أخرى إلى الأمام.
مكايدة ومغالبة وإقصاء ومبالغات
يضاف إلى ما سبق، المكايدة والمغالبة التي طبعت ممارسات الفرقاء المختلفين المنخرطين في السياسة، التي أعيد اختراعها بعد طول تغييب وتصحر، وعلى نحو شوه عملية بناء المؤسسات، وأساء إلى صورتها عند عموم التونسيين، ومهَّد الطريق لتقويضها، أو ضرب ما تحقق من استقلاليتها.
وفي المحصلة، رسب العديد من الرموز المحسوبة على الثورة، وذات المصلحة في التغيير والقطيعة مع ماضي الاستبداد والفساد، في امتحان الحرص على ما تحقق وتحصينه مرة تلو أخرى.
وبدا سافرا دون مواربة أو خجل الاستعداد لهدم المؤسسات الناشئة، وتقويض مساحات الحريات والحقوق المكتسبة بعد الثورة، وتسليم البلاد مجددا إلى الدكتاتورية وحكم الفرد البغيض، وديناصورات البداوة المستحدثة والعروبة المغشوشة الحداثة، نكاية في المنافسين الخصوم، وطلبا لإقصائهم واستئصالهم. وفي خلفية هذا، يكمن العجز عن معالجة الإخفاق في تنظيم الناس والارتقاء بوعيهم وكسب ثقتهم.
هكذا بدا العديد من القوى المعنية بالرهان على التغيير والديمقراطية غير مستعدة للعمل بمثابرة وصبر ودأب، على الثقافة والممارسة السياسية بين المواطنين ومن أجل المواطنة، وبما يسمح لها بحضور ومشاركة أوسع في مؤسسات الدولة. وهذا مع أن البلد عاش بين 2011 و2021 أفضل فترات تاريخه الحديث والمعاصر، من حيث إتاحة حريات التنظيم والتجمع والاحتجاج والتعبير والمشاركة في العمل العام.
أخطأ إسلاميو تونس “حزب حركة النهضة”، الأكثر تطورا وحداثة ومقرطة بين أقرانهم في العالم العربي، بالتحالف من مواقع الاستتباع والانتهازية مع قوى نظام ما قبل الثورة، وبالامتناع عن المضي في توجيه ضربات حاسمة لها اقتصاديا وسياسيا، وكذلك بإهمال الضروريات والطموحات الملحة في التنمية والعدالة الاجتماعية.
وأظن أن الأوروبيين والأمريكيين من موقع المرافقة لـ”الانتقال الديمقراطي”، وأقصد الحكومات والأجهزة والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية بالأساس، مارسوا دورا مؤثرا في “فرملة” ضرب قوى نظام ما قبل الثورة، وهو أمر يستحق الدراسة والبحث عبر تتبع شبكات المصالح الممتدة منذ عقود بين الداخل والخارج.
لكن خصوم إسلاميي تونس من يساريين وليبراليين، وبخاصة بين “القوميين العروبيين”، ارتكبوا الخطأ الأكبر والأخطر تأثيرا بمكايدات وبتحالفات أكثر بؤسا واستتباعا وانتهازية مع أعداء الثورة، وسقطوا في مبالغات مضللة وغير بريئة عن “هيمنة الإسلاميين على الدولة” و”فوضى البرلمان”.
وكان واضحا للكافة من هي القوى الأكثر استبدادا وتخلفا التي تنظم حملات التضليل هذه من خارج تونس وتنفق عليها بسخاء، وكيف جرى توظيف هذه الحملات لتقويض البرلمانية والمؤسسية، واستقلالية المؤسسات والديمقراطية الناشئة، والحق في التنظيم والاحتجاج وتداول السلطة، ومعها مجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وهذا لأن المطلوب اجتثاث ما تحقق لتونس بعد الثورة من الجذور، بل والتمثيل بالجسد الذبيح أمام كل مشروع للمواطنة والديمقراطية في عالمنا العربي، ولم يكن الهدف في الأغلب الإصلاح أو تصويب ممارسات تضر بفرص التغيير.
استدعاء ” مخلفات” انقلابات المشرق العربي
أنجزت الثورة المضادة بتونس، في أعتى وأنجح موجاتها منذ 2011، مهمتها في خداع جمهور واسع، باستدعاء “المخلفات والمستهلكات القديمة” للانقلابات العسكرية بالمشرق العربي، من قبيل القول بالفساد الحتمي للديمقراطية والأحزاب والبرلمانية، وبخداع إعادة إنتاج شعار “الخبز قبل الحرية”.
وانطلت هذه “المخلفات” على جمهور زماننا، على الرغم من تكرار حصادها المأساوي لنحو سبعة عقود. ومع كون حصادها كل مرة هو أن حكم الفرد والدكتاتورية يفضي سريعا إلى فساد أشد وأخطر، بل ومحصَّن من ملاحقته ومقاومته، على خلاف ما كان ممكنا ومتاحا. كما أن الشعار الشهير “إياه” ينتهي إلى حقيقة أنه لا حرية ولا خبز.
وهنا ثمة درس مهم، مفاده أن بيننا من يدعى طلب الديمقراطية، لكنه على استعداد مرة تلو أخرى، أمس واليوم وغدا، لطعنها والمشاركة في إجهاضها. وكأن التغيير والخروج من استبداد حكم الفرد وفساده ليس بأولوية عنده أبدا، وكأنه لم ينضج بعد ليبلغ الفطام من “الزعيم والزعامة”، وثنائية “القائد وجماهيره”، والعودة إلى مصادرة حريات الناس وحقوقهم، ولكل جرائم الطغيان تحت الرايات المزيفة لـ”الوطنية” و”السيادة” و”الدولة”.
ولعله من الأخطاء في فهم الحالة التونسية ومن بين أسباب فشل تجربتها الاستثنائية، المبالغة في تقدير قوة واستقلالية كبريات منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها “اتحاد الشغل”. إذ سرعان ما اتضح مجددا وتأكد، مع 25 يوليو وبعده، ضعف الديمقراطية الداخلية، وتقلب سياسة قياداتها تجاه الثورة والتغيير، مع نخر الفساد والشللية، وعواقب خلط الأدوار السياسية بالنقابية وبالحقوقية.
بعد 3 سنوات من الانقلاب، لم تعد تونس ولا استحقاقاتها الانتخابية بالأهمية ذاتها إقليميا وعند محيطها البحر متوسطي وعالميا. وهذا باستثناء ما تنهش أسماك القرش الأوروبية من لحم فريسة معتلة جريحة، أصبحت أضعف وأقل حصانة، وفي ملفات كهجرة التونسيين والأفارقة إلى أوروبا.
وهكذا تقدّم الحالة التونسية نموذجا إضافيا لانعكاس ضعف الداخل وفقدان أوراق القوة الذاتية على المكانة في الخارج.