سجلات الذين سقطوا والذين صمتوا!
أكمل العدوان الصهيوني الهمجي على غزة ثلاثمائة يوم وازدادوا حيث استمر منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي دون توقف باستثناء هدنة قصيرة لمدة أيامٍ أربعة في نوفمبر تشرين الثاني 2023.
إن وقفة تأمل لما جرى خلال الأشهر العشرة الماضية ستكشف كثيرًا مما يمكن تصنيفه حاليًا في خانتي السقوط والارتقاء أو تأريخه لاحقًا في مربعي النكوص والانكفاء لمن صمت والتقدير والاحترام لمن صمد.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالديمقراطية تتراجع.. والاستبداد يقفز إلى السماء!
غزوات الرسول ﷺ وسرايا القدس (2/1)
“الحرب” كما يرويها بوب وودورد
إن نظرة فاحصة ستتيح فهمًا أعمق لحقيقة ما جرى ولقائمة المتغيرات بالسقوط لأسفل أو الارتقاء لأعلى والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أنه قبل أحداث السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي وما سمته المقاومة الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى” وما اعتبرته الرواية الإسرائيلية “عدوانًا بشعًا على المدنيين” في المستوطنات المتاخمة لقطاع غزة كان الاحتلال قائمًا لمدة سبعة وخمسين عامًا منذ الضربة العسكرية التي وجهتها الدولة الصهيونية لمصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين في يونيو حزيران 1967 واحتلت بموجبها أراض عربية من مزارع شبعا جنوبي لبنان إلى شبه جزيرة سيناء شرقي مصر.
سقوط وارتقاء
لم يتوقف العدوان على فلسطين التي تبحث عن الاستقلال وربما أصبحت الدولة الوحيدة المحتلة بالكامل في هذا العالم، والمدفوع من أرواح الشهداء بلغ أكثر من أربعين ألف شهيد وتسعين ألف مصاب غير ما يزيد عن عشرة آلاف مفقود تحت الأنقاض، وهو ثمن فادح وفق أي مقياس.
لا يفضل الفلسطينيون استخدام عبارة “سقوط” في معرض الحديث عن الشهداء، ويفضلون استخدام كلمة “ارتقاء”، وأيا كان الوصف المستخدم فإن العدد الكبير ممن فقدوا حياتهم أو أصيبوا بجراح هم أول من دفعوا الثمن ضحايا لهذا العدوان الهمجي الذي شنته الدولة العبرية، ووراء كل رقم من الضحايا قصة إنسانية، مأساة متكاملة، أن كل هذا العدد سقط!
يمتد السياج الإلكتروني الذي شيده الكيان الصهيوني حول قطاع غزة برًا وبحرًا لمسافة 65 كيلو مترا، بارتفاع من 6 إلى 10 أمتار واستخدم في بنائه 2.3 مليون طن من الخرسانة و 140 ألف طن من الحديد، وشارك في تشييده 1200 عامل وتطلب إزالة 330 ألف شاحنة من الرمال والصخور، وفقًا لـ(CNN).
أطلقت الحكومة الإسرائيلية عليه وصف “الجدار الذكي” لأنه يحتوي على أجهزة رصد إلكترونية ومجسات وكاميرات مراقبة يمكنها رصد أي كائن متحرك مهما كان صغيرا.
تكلف الجدار (1.1 مليار دولار)، واستغرق أكثر من ثلاث سنوات، وإذا تم وضعه في خط متصل فإنه سيصل إلى أستراليا، حسب تصريحات الجنرال “عيران عوفر” المسؤول عن بناء الحواجز في وزارة الدفاع الإسرائيلية، لكن كل هذه التكلفة وهذا “الذكاء” سقط!
الهيبة
يحتل الجيش الإسرائيلي المرتبة السابعة عشرة في قائمة أقوى الجيوش في العالم، وفقاً لإحصائيات موقع “غلوبال فاير باور” الأمريكي، ويضم في صفوفه 169 ألف جندي نظامي، ونحو 465 ألفًا من قوات الاحتياط، وفقًا للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (I. I. S. S).
تنتج إسرائيل السلاح وتقوم بتصديره لكنها تعتمد بنسبة كبيرة في تسليحها على أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الغربية في مجال الأسلحة التقليدية والذكية وتستورد احتياجاتها من الولايات المتحدة الأمريكية والمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة على الترتيب.
تلقت إسرائيل المساعدات العسكرية الأميركية، بنحو ربع مليار دولار منذ إنشائها على أرض فلسطين التاريخية وحتى الآن، وفي عام 2023 تجاوز التمويل العسكري الأميركي لإسرائيل 3.8 مليارات دولار.
لطالما صورت إسرائيل جيشها بأنه “لا يقهر” وقدمته دائما باعتباره صاحب اليد العليا والذراع التي يمكن أن تطال أي عدو وتتباهى أجهزتها الأمنية والاستخباراتية بقدراتها وإمكاناتها ويُنسب إليها عمليات نوعية اغتالت فيها من تعتبرهم أعداء في أماكن متفرقة حول العالم.
ولدى إسرائيل سجل أسود في تصفية رجال المقاومة الفلسطينية لكن عدتها لم تتماسك وكذا عتادها أمام أسلحة محلية الصنع بمكونات بسيطة، وإمكانات محدودة، وترنح “الجيش الذي لا يقهر”، أمام أفراد راجلين رغم قواته النظامية عالية التسليح، وكل هذا سقط!
السلطة الحاكمة
استولت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على السلطة في يونيو حزيران عام 2007 في انقلاب على السلطة الوطنية التي تحكم الأراضي الفلسطينية وفق “اتفاقات أوسلو” الموقعة في 13 سبتمبر أيلول عام 1993 بالعاصمة الأمريكية واشنطن.
نجحت حركة “حماس” في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في عام 2006 وتفوقت على حركة “فتح” كبري فصائل منظمة التحرير الفلسطينية لكن الصراع بين الفصيلين الكبيرين اتخذ شكلًا عنيفًا في غزة صيف 2006 وانتهى باستيلاء “حماس” على الحكم.
سبعة عشر عامًا والحركة تحكم القطاع المكتظ بالسكان، ورغم أنها خرجت من رحم المقاومة لكنها تعتبر على نطاق واسع الفرع الفلسطيني لحركة “الإخوان المسلمون” التي نشأت في مصر عام 1928 على يد حسن البنا (1906-1949)، وهي حركة دينية وسياسية لها أهداف دعوية وسياسية.
وقد عمدت إسرائيل إلى تدمير البنية التحتية التي أنفقت فيها حماس وقبلها السلطة الوطنية عشرات وربما مئات الملايين من الدولارات، وتشمل المدارس والمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء والأبنية والمؤسسات كما قامت بتدمير منازل المواطنين الفلسطينيين جزئيا أو كليا بنسبة تقترب من 90٪.
أنشأت حركة “حماس” مؤسسات تعليمية واجتماعية وطبية وكان لها نشاط اجتماعي وخيري ومشروعات اقتصادية وعلاقات مع دول وجهات مانحة ما ساعدها على الاستمرار في الحكم، ومهما اختلفت الآراء حول حق “حماس” في ما فعلته أو تسرعها وعدم توقعها لرد فعل الحكومة اليمينية المتطرفة التي تحكم إسرائيل، وبغض النظر عن عودتها للحكم أو عدمه فإن سلطة “حماس” وما بنته وأنشأته قد سقط!
الانتقاء
وجد المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة سبيلًا لإعلاء صوت القانون في عدة مناطق بعضها تطلب تدخلًا عسكريا بقوات تحت غطاء أممي أو بدعم لوجيستي وتقني، أو بتكوين إدارة أممية إذا استحالت الإدارة المحلية، وهناك أمثلة على تحرك المجتمع الدولي بقيادة الغرب لفرض الأمن أو السلام مثلما حدث في الصومال سنة 1992 أو في كوسوفا التي تستضيف بعثة من الأمم المتحدة منذ عام 1999 وحتى الآن.
ورغم المجازر والفظائع التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي والتي ترقى وفق منظمات حقوقية موثوقة لدرجة الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، ورغم المطالبات من دول عديدة حول العالم بمحاكمة قادة إسرائيل على ما اقترفوه بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، إلا أن المجتمع الدولي أثبت أن قانونه انتقائي ولم يستطع كبح جماح التطرف الإسرائيلي، ورغم مئات الخبراء والأساطين ومحكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية إلا أن القانون الدولي فشل في اجتياز اختبار غزة، وكل هذا الادعاء بأن هناك قانون دولي يحكم العالم قد سقط!.
المحصلة
كثيرون سقطوا إما تحت ضربات جيش الاحتلال الإسرائيلي أو تحت قصف الرماة الفلسطينيين من رجال المقاومة الباسلة، أما العالم الغربي الذي يدعي حمايته لحقوق الإنسان فإنه يشاهد منذ أكثر من ثلاثمائة يوم المجازر والإبادة دون أن يحرك ساكنًا، وسيدون التاريخ باعتزاز كيف قاوم الشعب الفلسطيني واستبسل متشبثا بأرضه لكنه سيفضح دون خجل الذين اختاروا السكوت دون أن يكون في ذلك فضيلة، وسيكون التاريخ سجلًا واضحًا لمن صمد ولمن سقط ولمن صمت.