حماس وخبراء التواصل الاجتماعي!!

المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي يؤم الإيرانيين في صلاة الجنازة على الشهيد إسماعيل هنية في طهران (الفرنسية)

لا أدري لماذا في بلادنا العربية فقط تحدث هذه المفارقة، فكل وسيلة يخترعها الغرب مفيدة أو نافعة في التواصل، يتم استخدامها غالبا في أهداف تافهة، أو تحويلها لأغراض غير بريئة، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. وقد تم اختراع وسائل التواصل الاجتماعي، منذ ما يزيد على عشرين عاما، وفجأة تجد معظم هذه الاستعمالات تدور فيما يمكن أن نسميه ممارسات المراهقين، أو من يعيشون مراهقة متأخرة، سواء كانت سلوكية أو فكرية.

خبراء بلا خبرة

وأبرزت هذه الوسائل ممارسات لم تقف عند حدود ما يتعلق بواقع الناس وحياتهم في أمور ترفيهية، بل وجدناها في أشد حالات الأمة حلكة، تدخل في قضايا مصيرية، تحتاج إلى دراسات متأنية وطول تفكير حتى يخرج الإنسان فيها برأي ليعلنه على العامة. ولو كانت قضية دينية، ربما يجمع لها عمر بن الخطاب الفقهاء الصحابة جميعا ليخرج منها برأي، فترى أحدهم يكتب منشورا لم يستغرق منه في التفكير أو البحث أكثر من دقائق، يتعلق بقضية دينية ليست بالهينة.

الفتوى عن طريق الشيخ غوغل

ومما يدل على خطورة ما نذكر، ما يدور منذ أيام، بعد استشهاد إسماعيل هنية، واختيار من يخلفه في رئاسة المكتب السياسي لحماس، إذ سارع أشخاص إلى الحديث في كل ما يتعلق بالأحداث سياسية ودينية، على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنهم خبراء فيما يتحدثون فيه، وهم أبعد ما يكونون عنه للأسف، فبداية من حديثهم عن خطأ وجود هنية في إيران في هذا التوقيت، وتحليل من وراء الاغتيال، وكيف؟ ولماذا؟ وصلاة الجنازة عليه، واختيار من يخلفه، وكيف تم هذا الاختيار؟ منتقلين بالحديث من السياسة إلى الدين، إلى كل مجال، رغبة في إثبات الوجود على وسائل التواصل الاجتماعي ليس إلا، رافعين شعار: أنا موجود، وأنا أبو العريف، ولديّ رؤية لم يلتفت إليها أهل حماس، ولا من يناصرهم، ولا من يناوئهم أيضا!!

يصلى على هنية في إيران فينكرون، فتخبرهم بأن صلاة الجنازة عند الشيعة تتفق في معظمها مع مذاهب سنية، وبخاصة المذهب الحنفي والمالكي، وتخبرهم بأن الأزهر له فتوى في مطلع ستينيات القرن العشرين بجواز التعبد على المذهب الجعفري، فترى أحدهم بكل جرأة يقول لك: المصريون والأزهريون جهلة بالمذهب الشيعي، ولا يطلعون عليه، لأنه لا يوجد شيعة في مصر، ثم تجده يجلب لك كلاما منما أطلق عليه أحد أصدقائنا: “الشيخ غوغل”، فقرة من هنا، وأخرى من هناك، جاهلا بأن من يصفهم بالجهل بالمذهب الإمامي أو غيره، منذ القدم وهم يدرسون هذه المذاهب، بل الأزهر نفسه أصدر موسوعة الفقه الإسلامي في الستينيات، ولم يذكر فيها مسألة إلا فيها المذهب الإمامي، والمذاهب الإسلامية الأخرى، ولكن هيهات فهم أهل الفتوى والفقه، ومن سواهم جهلة، وأصحاب غرض.

فذلكات بمناسبة اختيار السنوار

تختار حماس السنوار خلفا لهنية، فتجد كل من هب ودب، يدخل لينظر لهم، تجد من يشيد بالاختيار، دون دراسة لما يقول، وتجد الطرف الآخر يشنع عليهم في اختيارهم، ويصف الاختيار بأنه انتحار، وأنه كعادة الإسلاميين لا يتعلمون من دروس ولا أخطاء أمثالهم في دول أخرى، وكان عليهم أن يفعلوا كذا وكذا.

وذلك بينما تجد هؤلاء الخبراء السياسيين على مواقع التواصل فقط، هم أنفسهم، كل حذرهم وخشيتهم هو ألا يغلق السيد مارك صفحاتهم على الفيسبوك، أو تُغلَق قنواتهم على اليوتيوب، فيروح أحدهم يحتال في طريقة كتابة، وذكر الأسماء، والهيئات، واسم غزة أو فلسطين، وحينما يغلق له الفيسبوك أو تويتر أو مواقع أخرى الصفحة أو الوسيلة، يخرج يشكو ويقول: لماذا؟ إنني فعلت كل ما يجنبني ذلك. يحتار أحدهم في إدارة صفحة، ولكنه جدير بالتنظير والمزايدة على من يديرون معركة تآمر عليهم فيها القاصي والداني، ثم يأتي ليعطي أوامر لا تقبل سوى التنفيذ السريع.

وذلك رغم أن من البدهيات القاعدة القائلة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. أي لكي تحكم على شيء لا بد من حسن تصوره، ومعرفة ظروفه وملابساته، وما يحيط به. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع قرارات حماس واختياراتها، فهم بشر يصيبون ويخطئون، لكن حتى مجال تقييم القرارات والأفكار له أسس ومعايير، وليس بمزاجية وهوى وخفة أصبحت واضحة وبادية لكل عاقل ودارس.

دور الجادين والمختصين

بالطبع لسنا نعمم هنا، لأن هناك مختصين في مجالاتهم، يبدون رأيهم فيما لهم به اطلاع وخبرة، ولكن هؤلاء قلة، وعند إبداء آرائهم السياسية أو الدينية، يذكرونها بتواضع شديد، ويذكرون الآراء التي يمكن أن تخالفها، ومدى وجاهة هذه الآراء، ويحللون أو يذكرون فتواهم، وهم لا يجزمون بصحة أقوالهم، وخطأ غيرهم، بل أرجى ما يرجونه أن تكون آراؤهم صوابا، لكنها لا تنفي صوابية غيرها، لأنها رأي علمي يأتي في سياق آراء أخرى.

لكن المشكلة في السطحيين، الذين لا خبرة ولا علم لهم، ولا دراية بما يتحدثون فيه، ولا يسلكون سلوكيات وآداب البحث العلمي فكرا وتعبيرا، وليست المشكلة في خفة رأي هؤلاء، بل المشكلة في أن الجمهور صار يجري وراء هذه الخفة، في ظل تسطيح العقول الدائر في بلادنا، سواء على مستوى التعليم، أو الإعلام، وتزداد مشكلة هؤلاء حين يمثلون ضغطا على أصحاب المشاريع الجادة والمناهضة للاحتلال في بلادنا، لأنهم يؤثرون في شريحة من الناس حولتهم مواقع التواصل إلى رموز، بناء على الجري وراء الترند، وما يطلبه المشاهدون، وما يدغدغ عواطفهم، وهنا يأتي دور الجادين، وأصحاب الطرح العلمي العاقل، وهو أن يستمروا في مقاومة مثل هذه الظواهر، بديمومة ما يقدمون من طرح جاد وبناء، والصبر على هذه السطحية التي سرعان ما سيكتشف الجمهور خفتها وزيفها، ويطرحها خلف ظهره.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان