كرة القدم لا تنقض المبادئ
ببداية دوريات كرة القدم في معظم دول العالم، ثم ببدء موسم الانتقالات في سوق الرياضة المصري، يفتح هذه الأيام فصل جديدة في قصة اللعبة الساحرة.
غضب ومنافسات وحوارات لا تنتهي على شبكات التواصل الاجتماعي حول موسم الانتقالات الخاص بالناديين الأكثر شعبية في مصر، الأهلي والزمالك.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلماذا كان السقوط سريعا؟
دون حكم ديمقراطي رشيد.. أوطاننا في خطر
الاقتصاد السوري.. عجز تجاري سلعي وخدمي مزمن
في طريقي إلى استاد برج العرب بمحافظة الإسكندرية عام 2016 لمشاهدة مباراة نهائي دوري أبطال إفريقيا بين الزمالك المصري وصن داونز الجنوب إفريقي كان طريق إسكندرية الزراعي يزدحم بالمشجعين الذين يرفعون أعلام الزمالك وبأعداد كبيرة، ويمتلئ بمئات السيارات التي حولته بالكامل إلى اللون الأبيض.
في غمرة الاحتفال قبل بدء المباراة أصلًا كنت أسأل نفسي عن السر وراء هوس الناس بهذه اللعبة الممتعة لتلك الدرجة التي تجمع كل هؤلاء المشجعين الذين يمكن ألا يتجمعوا في أي وقائع أخرى، بل كنت أسأل نفسي عن سر اهتمامي أنا شخصيًا، ومعي عدد من الأصدقاء، والانتقال من القاهرة إلى الإسكندرية لمشاهدة مباراة كرة قدم!
في تعلق الناس باللعبة الشعبية الأولى في العالم بهذه الدرجة غير المعقولة أسئلة كثيرة، بعضها يمكن الإجابة عليه لكن يبقى البعض الآخر دون إجابات مقنعة.
السياسة والاقتصاد جزء من اللعبة
بمقدار شعبيتها الكبيرة في دول العالم لم تعد كرة القدم مجرد لعبة للتسلية والمتعة كما كانت في بداياتها الأولى، بل باتت منذ سنوات طويلة صناعة مهمة تشجعها الدول وترعاها.
تبدع الرأسمالية في إحالة كل ما هو موجود على وجه الأرض إلى مصدر للكسب.
في اللوجو المطبوع على قميص الأندية الجماهيرية مصدر كبير للدخل والمال، يباع لعشاق اللعبة الساحرة في كل مكان، ويجني البعض الملايين من وراء هذا الحب.
وفي شراء رجال الأعمال -ومن ورائهم سياسيون- للأندية الرياضية الكبرى استثمار يفوق كل تصور.
دخلت الدول والرموز الاقتصادية إلى ساحات الملاعب فازدادت شعبية اللعبة الشهيرة، وبات بعض الاقتصاديين ينظرون إليها في العالم باعتبارها دافعًا للنمو الاقتصادي.
فالدول التي تنظم البطولات الكبرى تتحول إلى مكان جاذب للسياحة، ثم إن الدول التي يمارس شعبها الرياضة هي الأكثر تميزًا على المستوى الصحي والتعليمي.
هذا الجدل الاقتصادي والصحي والتعليمي صب في خانة الاهتمام الذي لا يتوقف بكرة القدم.
من الاقتصاد إلى السياسة تفوقت أوروبا في الاستخدام السياسي للكرة لتأكيد رسائل ومفاهيم تصون التنوع والاستقرار وتحارب العنصرية والتمييز المجتمعي عبر اللعبة التي أسرت العقول.
استخدمت القارة العجوز كرة القدم منذ سنوات طويلة في معركتها لترسيخ التنوع عبر وجود لاعبين من أبنائها الذين يحملون لون بشرة مختلفة أو هؤلاء الذين جاءوا من أصول غير أوروبية ومنحتهم فرص المشاركة في الفرق الكبيرة.
في كل هذا الحب والتعلق الشعبي ما يغري السياسيين بالاستغلال لصالح المجتمع حينًا ولصالحهم أحيانًا.
رؤساء الدول وقيادات الأحزاب والوزراء والمسوؤلون باتوا مشجعين من مقاعد الاستاد وقت منافسات المنتخبات الوطنية في البطولات الكبرى، يرتدون ملابس منتخباتهم ويحملون أعلام دولهم ويهتفون مثل روابط الألتراس لا فرق!
في قواعد السياسة يبدو الغياب عن هذه التجمعات المأسورة بالعشق خطأ فادحًا ليس له ما يبرره.
يفعل المسوؤلون هذا وهم يدركون أن كرة القدم قد تكون سببًا في ترميم أخطاء سياساتهم أو دفع أنظمتهم خطوات للأمام.
وبقدر جماهيريتها الكاسحة تستدعي الدول اللعبة الشعبية الأهم في استحضار الروح الوطنية وقت منافسات المنتخبات ليصير علم الدولة هو الرمز الذي يلتف حوله الجميع.
كرة القدم في العالم العربي:
برغم تحول كرة القدم في الدول العربية إلى صناعة منذ اللحظة التي دخلنا فيها إلى عالم الاحتراف، فإن الهوس العربي باللعبة الآسرة له، في ظني، أسباب يمكن إضافتها إلى ما سبق كتابته.
بنفس مساحة إحساس الناس في مجتمعنا العربي بغياب العدالة تطل الساحرة المستديرة ليصبح ملعبها هو الوحيد الذي يتمتع بمساحة معتبرة من قواعد العدل بين ندين متنافسين، ويقف فيه الحكم على مسافة واحدة من كل هؤلاء الذين يرغبون في الانتصار.
العدل إحدى القضايا الكبرى في مشوار الشعوب العربية نحو المستقبل.
في البحث عن العدالة في ملاعب كرة القدم العربية ما يعوض بعضًا من غيابها عن المجتمع، وفي التمسك بميدان يمكن الانتصار فيه وسط هزائم شخصية وعامة فادحة ما يغري بمزيد من التشجيع الذي يغلفه التعصب أحيانًا.
ليس العدالة والانتصار فقط هما ما يميزان الساحرة المستديرة في عالمنا العربي.
فربما أهم ما يميزها لغالبية الشعوب العربية هو أنها متعة مجانية، لا تحتاج إلى اشتراكات ولا انتقالات ولا مصروفات من أي نوع، فامتلاك شاشة تلفزيون كاف للمواطن العربي لمشاهدة الدوريات المحلية والاستمتاع بالمنافسات الكروية الساخنة أحيانًا.
اختفت المتع المجانية من حياة الإنسان العربي فيما ظلت كرة القدم على حالها.
هذه حقيقة مؤكدة!
هل الكرة تنقض المبادئ؟!
الكرة للجماهير!
بينما يردد الألتراس في مصر هذا الشعار الشهير وهو يبعث برسائل إلى السلطة التي لا تسمح بحضور جماهيري كبير في المباريات يبدو مقدار الارتباط بين الكرة والناس.
في الهجوم على محبي كرة القدم ومحاولة بعض المثقفين والمهتمين بالشأن العام التقليل من شأنهم برغم أعدادهم المليونية لغز يضاف إلى كثير من تصورات العقل المثقف في عالمنا العربي، وطبيعة تعامله مع الناس العاديين.
ليس في محبة كرة القدم ما ينقض المبادئ، ولا ما يقلل من ضرورة انتماء الإنسان لقضايا أهم وأكبر، وليس في حياة المواطن العربي متع كبيرة يمكنها أن تحد من الاهتمام الواضح بالساحرة المستديرة.
منع الناس عن المتعة الوحيدة الباقية وسط تلال القمع وانتهاك الكرامة وافتقاد العدالة هو ظلم جديد يضاف إلى مجتمعات لا ينقصها الظلم أبدًا.
من حق البعض أن يهتم بكرة القدم، ومن حق آخرين رفضها ومقاطعتها، لكنّ أحدًا لا يمكنه إصدار اتهام ضد المهتمين باللعبة الأشهر أو نعتهم بالسطحية وخيانة القضايا الكبرى.
وفي الحديث عن خيانة القضايا الكبرى هناك كلام ربما نعود إليه في وقت آخر!