أزمة القسم لأتاتورك.. في وجه من رُفعت سيوف خريجي الكلية الحربية الأتراك؟!

احتفالات الطلاب والقسم لأتاتورك (الصحافة التركية)

فوجئ الأتراك بمقطع مصور لحوالي 400 طالب من خريجي ضباط كلية الحرب البرية بجامعة الدفاع الوطني، والبالغ عددهم 960 طالبًا، يحتفلون بتخرجهم في أحد الحقول بعيدًا عن أسوار جامعتهم، وهم يرفعون سيوفًا كانت بحوزتهم، ويرددون قسم الولاء لمصطفى كمال أتاتورك “نحن جنود أتاتورك، نحن حراس العلمانية والديمقراطية”، وهو القسم الذي أُلغي ترديده رسميًا داخل الأكاديميات العسكرية منذ العام 2022.

المقطع الذي تم نشره على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، كان يمكن أن يمر مرور الكرام، باعتبار أنهم مجموعة من الخريجين أرادوا التعبير عن سعادتهم بتخرجهم مرددين هتافات اعتاد ترديدها من سبقوهم من الخريجين، في احتفال خاص بعيدًا عن الاحتفال الرسمي الذي يتميز عادة بالدقة والانضباط، ويحضره رموز الدولة، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية، مما لا يمنحهم قدرًا من الحرية للتعبير عن فرحتهم بهذا اليوم.

إلا أن ما أشعل فتيل أزمة داخلية، وصلت إلى حد تبادل الاتهامات، وإطلاق التحذيرات، ووضع محتوى الفيديو تحت مجهر التدقيق والتحقيق؛ قيام الرئيس أردوغان بتوجيه انتقادات حادة لمن يقف وراء هذا الفعل، واصفًا إياهم بـ” القلة الجاهلة من الجيش”.

تساؤلات عدة أثارها رد فعل الرئيس الذي جاء متأخرًا بفارق زمني ليس بالقصير-الواقعة حدثت في الثلاثين من شهر أغسطس/آب، بينما وجه انتقاده لها بعدها بأسبوع كامل- واختياره التعليق عليها خلال حضوره مؤتمر لمدارس الأئمة والخطباء، ووعده الحضور بـ”تطهير الجيش ممن يقفون وراء ذلك”. إذ بدأت وسائل الإعلام البحث في مغزى تصريحاته، وسبب انتظاره طوال هذه المدة للتعليق على الواقعة، وهو التعليق الذي اختتمه بتساؤل: “في وجه من رفعت هذه السيوف؟”، ومطالبته وزارة الدفاع بإجراء تحقيق عاجل بشأنه، وإعراب المقربين منه عن عميق انزعاجه من محتوى المقطع.

بيان عسكري لترهيب الإسلاميين

أردوغان قال إنهم لم يصلوا إلى حكم البلاد بسهولة، وإنهم لن يتسامحوا مع مثل هذه التصرفات، فيما بدا وكأنه رسالة حاسمة موجهة لمن يسعون إلى إثارة البلبلة والفرقة بين شرائح المجتمع.

وشكك شريكه في الحكومة، دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية، في نوايا منظمي هذه الاحتفالية غير الرسمية، محذرًا من محاولات البعض تأجيج نار الفتنة في المجتمع واستغلال اسم أتاتورك لتحقيق أهدافهم، مطالبًا بإجراء تحقيق موسع لكشف ملابسات الواقعة التي تحمل في طياتها دلالات سياسية شديدة الخطورة، في إشارة إلى الدور السابق للجيش في الحياة السياسية وتدخله في الشؤون الداخلية للدولة.

بينما عدّ موالون لحزب العدالة والتنمية الحاكم ما حدث وكأنه بيان عسكري يلمّح بشكل علني للانقلاب، في محاولة تستهدف ترهيب الإسلاميين، وإثارة الفزع والرعب بينهم، وذهب البعض منهم إلى التحذير من أن تجاهل هذا الحدث، وعدم أخذه بالجدية المطلوبة ستكون له تداعيات تنذر بالخطر على مكانة كل من الجناحين المحافظ والإسلامي اللذين يدعمان الحزب كونه نجح في وأد الوصاية العسكرية لميراث أتاتورك، وطوى صفحتها من صفحات التاريخ التركي المعاصر.

المخاوف المشروعة وأسبابها المنطقية

لا يمكن الاستخفاف بالقلق الذي عم أوساط الإسلاميين في تركيا من جراء تلك الواقعة، أو تجاهلها، فالهتاف الذي ارتفعت به حناجر الخريجين هو هتاف سياسي يرفعه دومًا حزب الشعب الجمهوري المعارض، وترديده بهذه الصورة ومن هذه الفئة تحديدًا يحمل العديد من الرسائل التي لا يمكن إنكارها، بل يجب الاحتراز منها، والتصدي لما وراءها.

في ظل فشل العدالة والتنمية -حتى الآن- في الحصول على التوافق المطلوب لتغيير دستور البلاد، الذي ينتظر الإسلاميون أن يكون محصنًا لكافة الحقوق والامتيازات التي حصلوا عليها خلال عقود أمضاها الحزب في السلطة منفردًا.

أولها؛ مسألة إطلاق حرية ارتداء الحجاب، والزي الإسلامي، دون أن يكون ذلك عائقًا يحول بين مرتديه والعمل في الشأن العام، وتبوؤ المناصب داخل مؤسسات الدولة، وحق خريجي مدارس الأئمة والخطباء في استكمال دراستهم الجامعية بمختلف التخصصات العلمية والأدبية، وعدم إقصائهم عن العمل بها، أو حصر دراستهم على كليات الشريعة والدعوة، والعمل كأئمة وخطباء في المساجد فقط.

وضمان استمرار تمكينهم من العمل التجاري، وفي مجالات التصنيع المختلفة وفق ما تنص عليه الأحكام الشرعية المرتبطة بتطبيق نظرية الحلال والحرام في التعاملات المالية، والتعامل معهم كأحد أركان النظام الاقتصادي للدولة، دون تفريق أو تمييز بينهم وبين رجال الأعمال العلمانيين.

إضافة إلى إلحاح حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي المستمر على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة عقب فوزه بالانتخابات المحلية التي تفوق فيها بمفرده على الائتلاف الحاكم الذي يضم كل من العدالة والتنمية والحركة القومية، معربًا عن استعداد لتحمل المسؤولية، واعتقاده في إمكانية إجراء انتخابات مبكرة أواخر العام المقبل.

استطلاعات الرأي العام ونتائجها

يدعمه في هذا المطلب؛ النتائج التي أصبحت تفرزها استطلاعات الرأي العام التي يجريها عدد من الشركات المختصة بقياس توجهات الرأي العام، إذ أسفر استطلاع للرأي أجرته شركة “سونار” المعروفة بحياديتها، أن النتائج التي من المنتظر أن تفرزها أية انتخابات مبكرة يمكن أن تٌجرى في تركيا الآن، تُظهر تصدر حزب “الشعب الجمهوري” النتائج بحصوله على أصوات 36.2% من الناخبين، بينما سيحصل حزب “العدالة والتنمية” على أصوات 23.8% من الأصوات، يليه حزب “الحركة القومية” شريكه في الائتلاف الحاكم على 11.2%، أما حزب “الديمقراطية ومساواة الشعوب” المؤيد للأكراد فسيحصل على 10.7%، وسيقتنص حزب “الرفاة من جديد” 5% من الأصوات، بينما سيحصل حزب “النصر” القومي المتشدد على 4.8% من الأصوات، وباقي الأحزاب على 3%.

وفي إجابة عينة الاستطلاع عن ما إذا كان لا بد من إجراء انتخابات مبكرة وعدم انتظار موعدها المحدد سلفًا في 2028، أجابت نسبة 53.1% بنعم، بينما أجاب 40.7 بلا. 

وأكدت نتائج استطلاع آخر أجرته شركة “آصال” في 26 محافظة متباينة الاتجاهات الحزبية، تم نشرها بداية الأسبوع الجاري، أن “الشعب الجمهوري” سيحصل على 34.5% من الأصوات إذا أجريت انتخابات مبكرة، و”العدالة والتنمية” على 29.8%، و”الحركة القومية” على 10.1%، و”الديمقراطية ومساواة الشعوب” على 9.3%، و”الرفاة من جديد” على 4.6%، و”الجيد” على 4.4%، و”النصر” على 3.8%، وحزب “العمال” على 1.1%، وباقي الأحزاب على 2.4%.

تقارب النتائج بين الاستطلاعين تشير إلى عدة أمور محددة تتلخص في:
1 – أن الشارع التركي لديه رغبة قوية في إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.

2 – أن حزب الشعب الجمهوري المرشح الأول لتولي زمام الأمور، وقيادة الدولة التركية خلال المرحلة المقبلة، مما يعني تغير السياسة المتبعة، وتحويل بوصلة العلاقات الخارجية صوب الغرب.

3 – أن الائتلاف الحاكم لا يزال ينزف بشدة، ويفقد كل يوم مزيدًا من قاعدته الشعبية بسبب الشعور بالخذلان الذي يسود بينهم من جراء السياسات التي تم انتهاجها فيما يخص السياسة الخارجية للدولة، وإعادة علاقاته بالعديد من الأنظمة الحاكمة التي طالما انتقدها.

واكتفائه بالتصريحات الإعلامية في مواجهة حرب الإبادة المستمرة لسكان غزة، واتخاذه خطوات هزيلة ضد الاحتلال قياسًا بما يعانيه الفلسطينيون من ظلم، وتهجير، واستهداف منازلهم، ومدارسهم، ومستشفياتهم. إضافة إلى تزايد ضغوط الأزمة الاقتصادية، وعجز الدولة عن التوصل لحلول سريعة لمواجهتها أو الحد من تداعياتها.

أزمة الائتلاف الحاكم الحقيقية

ويبدو أن الشعب الجمهوري يدرك طبيعة اللحظة الراهنة، وأهمية استغلالها لمصلحته، إذ سارع زعيم المعارضة أوزغور أوزيل، باستنكار تصريحات أردوغان، متهمًا إياه بالسعي لخلق مناخ استقطاب في البلاد عوضًا عن التطبيع السياسي، منتقدًا توجيه انتقاده لخريجي كلية الحرب البرية أمام طلاب مدارس الأئمة والخطباء، وحديثه عن تطهير الجيش، معتبرًا أن هذا يحمل معنى كارثيًا، مؤكدًا أن طلاب الأئمة والخطباء ليسوا أعداء الجيش، وأن الجيش ليس عدوًا لهم.

أزمة فعلية ومعضلة حقيقية يواجهها الائتلاف الحاكم في تركيا، فمن ناحية عليه أخذ مخاوف قاعدته الشعبية على محمل الجد، وعدم تجاهلها، وفي نفس الوقت عليه تدارك الأمور ووضعها في نصابها، مع عدم الاصطدام بالجيل الجديد للمؤسسة العسكرية تجنبًا لإثارة التيار العلماني الذي يقف له بالمرصاد.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان