الدولة العميقة بين حضارتين
لن تستوعب الأذهان ببساطة، نظرية المؤامرة في مناظرة مرشحي الرئاسة الأمريكية، الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية كامالا هاريس، أمس الأول، بعد أن بدا واضحًا أن ترامب قد خاض النزال شاردًا تائهًا غامضًا، بوجه وتعبيرات وردود الخاسر مقدمًا، على غرار بعض الفرق الكروية التي تبيع المباراة قبل بدايتها، لحسابات تتعلق بالفريق ذاته، أو بغيره من الفرق الأخرى، أو حتى بتعليمات فوقية، كما في دول العالم الثالث.
وعلى خلاف مناظرته مع جو بايدن الرئيس الحالي في يونيو/حزيران الماضي، لم يبتسم الرجل مرة واحدة، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية في مثل هذه المواقف، على عكس الخصم، التي حرصت على ذلك منذ اللحظة الأولى، وحتى النهاية، كما لم يَرُد بإجابة واحدة مقنعة عن أي سؤال، وهو أمر يثير الدهشة من رئيس سابق، ذي خبرة بالمناظرات، والأهم هو أنه أجاب عن الكثير من الأسئلة بقصص لا علاقة لها بالسؤال، والهروب في الأحوال كلها إلى قضية المهاجرين التي لم تبد مقنعة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما تحدث «الملثم» بعد غياب!
الحرب على الجبهة الإعلامية.. المهام المنتظرة
تحت سماء الصواريخ.. ليلة لا تُنسى
هذه المناظرة المثيرة للجدل، التي تمنح هاريس النتيجة مقدمًا، قبل نحو شهرين من إعلانها، تفتح ملفًا على قدر كبير من الأهمية، يتعلق بتعبير الدولة العميقة، وهو تعبير بدا واضحًا أنه ليس معنيًا فقط بالأنظمة الديكتاتورية التي تواجه ثورات أو تغييرات، تحتم على أتباع النظام الرسميين، اتخاذ مواقف تحمي وجودهم، أو تحافظ على مكتسباتهم، ذلك أن الانقلابات أو التغييرات الجذرية، من اليسار إلى اليمين، أو العكس، يستتبعها بالتأكيد عمليات صعود وهبوط لفصائل عديدة من المجتمع، تحتم على هؤلاء وأولئك بذل أقصى جهد ممكن في النزال، حتى وإن تتطلب الأمر صراعات، قد تصل إلى المواجهة بكل أنواعها، المشروع منها وغير المشروع.
مهمة الدولة العميقة
المراقب للحالة الأمريكية، خصوصًا في هذه الجولة من السباق الانتخابي الرئاسي بين الديمقراطيين والجمهوريين، سوف يلحظ الحضور الطاغي للدولة العميقة التي تقف خلف مرشحة الديمقراطيين، كاميلا هاريس، وكأن الحال يشير إلى قرار نهائي باستبعاد الرئيس السابق دونالد ترامب عن الوصول إلى البيت الأبيض مرة أخرى، لما فيه صالح الأمة الأمريكية، التي كانت مهددة في يوم ما، وقت أن اقتحم أنصاره “الكونغرس” احتجاجًا على نتائج الانتخابات السابقة، وما زالت مهددة أيضًا، بفعل شيطنته للمهاجرين والمواطنين من أصول غير أمريكية على حد سواء، إلى جانب قضايا أخر عديدة.
الدولة العميقة ظهرت واضحة أيضًا في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، حينما تدخلت، في أدمغة الناخبين هناك، في اللحظات الأخيرة وبطرائق مختلفة، لإنقاذ نتائج الانتخابات من فوز اليمين المتطرف، بعد استطلاعات الرأي التي أكدت، طوال الوقت، صعوده بقوة، وما زالت تداعيات هذه التدخلات السريعة والقوية ونتائجها، تلقي بظلالها على مجريات الأحداث الفرنسية عمومًا، ومن المنتظر أن تستمر هذه التداعيات طويلًا، لأسباب عديدة، تتعلق بالديمقراطية الفرنسية، التي أصبحت مثيرة للجدل.
في الدول ذات الباع الكبير في مجالات الحرية والديمقراطية واحترام الدستور والقانون، سوف تكتشف أن مهمة الدولة العميقة تتعلق بالدفاع عن هذه المكتسبات، الدفاع عن استقرار الوطن، حماية الوحدة الوطنية، الحفاظ على السلام الاجتماعي، استمرار السياسات الخارجية دون تغيير كبير، كل ذلك أيضًا في إطار قانوني واضح، من خلال الناخب أولًا وأخيرًا، لا مجال لتزوير إرادة الناخبين، لا مجال لتجاوزات عامة أو حتى شخصية، وهو ما يفضي في نهاية الأمر إلى حالة من الرضا العام، حتى وإن كانت هناك بعض التشنجات لسبب أو لآخر.
على العكس تمامًا، في البلدان غير الديمقراطية أو المتخلفة، تنحصر مهمة الدولة العميقة في الحفاظ على المكتسبات الشخصية للقائمين عليها، من سياسيين واقتصاديين وعسكريين وقانونيين وإعلاميين وغيرهم، حتى وإن تطلب ذلك سحق الآخرين، المتطلعين إلى الحكم، أو الطامعين في السلطة، ذلك أن النتيجة الطبيعية لوصول آخرين إلى سدة الحكم، هي تقديم السابقين إلى محاكمات وتحقيقات، على أقل تقدير، ما بالنا حينما يتعلق الأمر بمحاكم ثورية، وعمليات انتقامية، وقد تكون مجازر لا تبقي ولا تذر.
ديمقراطيتهم لم تعد مقنعة
أوجه الشبه بين الدول الديمقراطية، وغيرها من الأنظمة الديكتاتورية كبير جدًا في العديد من الممارسات، وإن اختلف الأمر تمامًا من حيث الشكل، خصوصًا ما يتعلق منها بحرية الإعلام، الذي هو في حقيقة الأمر أكذوبة كبرى هنا وهناك، ما يتعلق منها أيضًا بإرادة الشارع، وقد تكون سياسات الأنظمة الديمقراطية تجاه الكيان الصهيوني، أبرز نموذج، على خلاف إرادة الشعوب أو الناخبين، أيضًا ما يتعلق منها بالصمت تجاه الحروب والنزاعات والقتل على مدار الساعة، ما دام الأمر يتعلق بشراء السلاح والاستفادة مما يجري، بالحصول على حقول نفط أو حتى مناجم ذهب في بعض الأحيان.
لم يعد ممكنًا بأي حال، إقناع شعوب العالم الثالث بديموقراطيات ما وراء البحار والمحيطات، التي صدعوا رؤوسنا بها على مدى أكثر من سبعة عقود مضت، وتحديدًا منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ذلك أن كتب التاريخ قد وثقت ممارساتهم كلها، من احتلال واستعمار ونهب وسلب وترويع ومصالح خاصة وعامة، حتى بلغ الأمر الإفصاح عن خطط لتخفيض عدد سكان الأرض، من خلال نشر الأمراض والأوبئة، والأكثر من ذلك إنتاج لقاحات وأمصال، أكثر فتكًا من الأمراض ذاتها.
الغريب في الأمر، وإلى جانب الإنفاق المالي الكبير والمبالغ فيه، من مراسلين وخلافه، هو إصرار وسائل إعلام دول العالم الثالث، على فرض “الألعاب الأوليمبية” الانتخابية لدى الغرب، خصوصًا الأمريكية منها، على الشعوب التي أصبحت تعي طبيعة هذه الألعاب، وتدرك أن نتائجها لن تغير من الأمر الكثير، لا في الداخل ولا في الخارج، خصوصًا إذا علمنا أن هذا الرئيس أو ذاك، يتم إعداده سلفًا، منذ ما قبل عقود على تنصيبه.
فقط، يجب أن نتوقف بالتحليل العميق حول كيفية الخلاص من جو بايدن، بطريقة سلسة ومقنعة، لصالح كاميلا هاريس، من خلال مناظرة واحدة فقط، ثم كيفية الخلاص من دونالد ترامب، بطريقة أكثر سلاسة وإقناعًا، لصالح هاريس أيضًا، بعدما فشلت عملية اغتياله وسط أنصاره في يوليو/تموز الماضي، وقد تكون وسائل العالم الثالث، في الخلاص من الخصوم، أكثر تهذيبًا!!، باستبعاد المرشحين، منذ البداية، لصالح المرشح الأوحد، الذي سوف يحصل على ما فوق الـ90% من الأصوات، إلا أن الجذور، كما هو واضح، متشابكة هنا وهناك، لتظل الدولة العميقة عاملًا مشتركًا بين الحضارات المختلفة، وإن اختلفت الأهداف.