لماذا لم يتحدث القرآن عن الميلاد النبوي؟!
شهر ربيع الأول مرتبط في أذهان المسلمين جميعًا بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويكثر فيه الحديث عن هذا الميلاد، وما ارتبط به من أحداث، لكن نقطة مهمة أزعم أنه لم يحدث أن أفردت بالتناول، وهي المقارنة بين ميلاد الرسل الذين يمثلون الرسالات السماوية الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وهم الرسل: موسى، وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام.
فالملاحظ أن القرآن الكريم تحدث عن ميلاد موسى وعيسى عليهما السلام، بشكل غير مسبوق، بينما خلا القرآن الكريم من الحديث عن فترة طفولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سوى ما ورد في سورة الفيل، وهو حديث عن حادثة لم تشر إلى ميلاده، وإن كتب المؤرخون أنه ولد في عام الفيل، لكن السورة نفسها لم تتحدث تصريحًا أو تلميحًا إلى ذلك.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما تحدث «الملثم» بعد غياب!
الحرب على الجبهة الإعلامية.. المهام المنتظرة
تحت سماء الصواريخ.. ليلة لا تُنسى
وما يقال عن محمد صلى الله عليه وسلم يقال عن جل الرسل والأنبياء، فلم يتحدث القرآن عن ميلادهم، سوى إشارة إلى ميلاد يحيى عليه السلام، لأن نبي الله زكريا عليه السلام رزق به بعد كبر، ويأس من الإنجاب، دون تفاصيل، أو الإشارة للبشارة بأن يرزق الله إبراهيم عليه السلام بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب عليهم السلام.
ارتباط الحديث والحدث بالرسالة:
إن لحظة ميلاد الرسل والأنبياء ليست لحظة مهمة بالنسبة للرسالة التي يحملها، خاصة إذا لم تتعلق بمعجزة، أو لربط بين رسالته وظروف ميلاده، وإن حاول بعض الرواة أن يذكر معجزات صحبت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، كغيض بحيرة ساوة، وانطفاء نار الفرس، وتحطم إيوان كسرى، إلى آخر ما ذكر، وهي روايات ضعفها ورفضها الكثيرون من العلماء، لأنها لو صحت لم تكن معجزة، لأن المعجزة تأتي للنبي وقت رسالته، بهدف التحدي لمن ينكرون نبوته ورسالته، وهو ما لا يتوافر في الأحداث التي تذكر عند ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما حديث القرآن الكريم عن طفولة موسى عليه السلام، فلأنها تحمل دلالة وتحديا مهما في رسالته، فإن رسالة موسى عليه السلام تتلخص في توحيد الله، وخلاص بني إسرائيل من العبودية لفرعون، وقد كان هاجس فرعون أن هذا الشعب سيخرج منه من يقضي عليه، وينهي حكمه، فكان يقتل فيهم، ويستعبدهم، فهنا يأتي التحدي، بأن يولد طفل، ويترك دون قتل، بل يربى رضيعا في قصر فرعون نفسه، فهنا حديث مهم يتعلق بمضمون الرسالة المرسل إليها نبي الله موسى.
تصحيح أفكار خطيرة عن العقيدة:
أما عن ميلاد المسيح عليه السلام، فهو ميلاد فريد، ولذا كان حديث القرآن عنه لأهداف عدة، هي أهداف كبرى في الكون والحياة والرسالة النبوية، فقد كان معجزة، حيث خلق بلا أب، وكان حديث القرآن هنا لنفي شبهة كبرى في الاعتقاد لدى من آمنوا بالمسيح عليه السلام، وهو اعتقاد فرقة منهم أنه الله، وأخرى بأنه ابن الله، فجاء حديث القرآن تصحيحًا لمعتقد خطير يتنافى تمامًا مع حقائق التوحيد الكبرى.
وجاء حديث القرآن عن ميلاده، تبرئة لعرض السيدة الطاهرة مريم عليها السلام، خير نساء العالمين، وهو ما حدث فيما بعد، من حديث القرآن الكريم عن تبرئة عرض عائشة رضي الله عنها، لأن الأمر يتعلق بعرض صاحب الرسالة، محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبل تعلق الحديث بعرض المسيح عليه السلام، وهذا الحديث كان أحد الأسباب لخلاف بين العلماء هل يصح أن تكون المرأة نبية؟ وأجاز ذلك ابن حزم، واعتبر مريم عليها السلام من الأنبياء، وليست مجرد امرأة صالحة.
فالحديث عن ميلاد الرسل لم يكن إلا من خلال السياق الذي يتعلق بالرسالة، والقضايا الكبرى للدين، فكل ميلاد لا يمثل أهمية كبرى للرسالات السماوية وغير السماوية، وهو ما جعل الصحابة يختلفون عند التقويم، هل يؤرخون بالميلاد، أم بالبعثة النبوية، أم بالهجرة أم بالوفاة؟ وترجح رأي الصحابة للتأريخ بالهجرة، لأنها حادث فارق بين مرحلتين في تاريخ الإسلام، من خلال هذه النظرة نفهم مدى أهمية الأحداث من حيث الحديث عنها، وكل ما يرد عن رسل الله وتاريخهم مهم بلا شك، لكن أولوية الحديث القرآني شيء آخر.
أهداف القصص القرآني:
أيضًا لا بد أن نفهم هذا الموضوع في سياق مهم، وهو أنه ورد في باب القصص القرآني، والقصة في القرآن لها أهداف، ولها أسباب، فمن هدفها: تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ) هود: 120، وللعظة والعبرة: (لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ) يوسف: 111، ولتصحيح ما ورد في قصص السابقين من أخطاء في الاعتقاد وفي ذات الله، كما ورد في قصص الأنبياء في الكتاب المقدس من تحريف يتنافى تمامًا مع مقام الإله سبحانه، أو أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم.
وحديث العبرة والعظة في القرآن عندما يتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين المعاصرين، يكون عن أحداث حاضرة، كحديث القرآن عن نزول الوحي، وغزوة بدر، وأحد، والخندق، إلى آخر حديث القرآن عن أحداث معاصرة، أو مر عليها زمن يسير لاستلهام العبرة، كما حدث في حديث القرآن في غزوة تبوك، بأن حدثهم عن الهجرة النبوية: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا) التوبة: 40.
دلالة على أن القرآن كتاب الله:
ثم أخيرًا، هذه الملاحظة المهمة، والتي تتعلق بخلو القرآن من الحديث عن طفولة محمد وشبابه صلى الله عليه وسلم، بينما أسهب القرآن في حديثه عن رسل آخرين، هي دلالة قاطعة على أن هذا القرآن من عند الله، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فيه حرفا واحدا، فهل يعقل أن شخصًا يكتب كتابًا سيكون متلوًا ليوم القيامة، فلا يأت على ذكره إلا بحسب ما يقتضيه المقام، بل الأولى به أن يسهب في ذكر تفاصيله، ولا بأس بذكر بعض تفاصيل الآخرين، لكن لأنه لا يد له في حرف منه، فقد جاء كما أنزله الله تعالى.