مناظرة أم فيلم “أكشن” أمريكي؟!

ما بين اللقطة الهوليوودية والسياسة، أقيمت وانفضت المناظرة المثيرة، بين المرشحة الديمقراطية السمراء كامالا هاريس، والجمهوري الصاخب دونالد ترامب.
لا شيء مفاجئًا في سيناريو المناظرة، هذه هي أمريكا، بلد أفلام الإثارة، ومعظمها تجارية تعتمد على مُناغاة النوازع البربرية الكامنة في بني آدم، ورفع نسبة الأدرينالين في دماء المشاهدين، بواسطة عناصر التشويق المعتادة؛ شيءٌ من الخدع البصرية، مجرد “شُغل حواة”، وشيءٌ من الموسيقى التصويرية، ذات الوقع الانفجاري، وشيءٌ من عضلات البطل المشدودة، وشيءٌ من قوام البطلة الممشوق كالرمح.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4لماذا تهدد روسيا باستخدام النووي؟ وكيف ينظر الناتو لهذا التهديد؟
- list 2 of 4جنوب السودان: هل تراجعت حظوظ بول ميل في خلافة سلفاكير؟
- list 3 of 4من “أوفوا بالعهد” إلى أوسلو.. إسرائيل نموذجًا لنقض المواثيق
- list 4 of 4عندما نفقد الشغف بالانتخابات رغم أنها قمة السياسة!
وفي سبيل اكتمال اللقطة، هرولت الصحف الكبرى؛ الكونية ذات الأسماء الرنّانة، لاصطياد أدق التفاصيل، وإعادة إنتاجها في قصص وتقارير، ولاحقت الشبكات الإخبارية المتحكمة في الفضاء، الخبراء والمحللين من مختلف المشارب؛ فإذا بمَن يتحدث عن الرسائل السياسية، ومَن يناقش حيادية شبكة “إيه بي سي” المستضيفة للمناظرة، بينما أخذ هؤلاء يشرحون ملامح البرامج الاقتصادية، وأولئك يحللون حتى دلالات لغة الجسد، ومنها مثلًا أن ترامب تحاشى النظر في عينَي منافسته، وأن عروق رقبة هاريس، بدت متشنجة في دقائق المناظرة الأولى.
وليس معقولًا والحال كذلك، تجاهل أن مطرب الراب الفلاني والملياردير العلاني يؤيدان هذا أو هذه، فالمشاهير من أبرز عناصر التشويق، والمعلوم بالضرورة أنك إنْ تنتج فيلم مقاولات فلا بد أن تتعاقد مع نجم شباك، يجتذب المشاهدين فيبتاعون تذاكر السينما، وكلما كان النجم “رائج السوق” ازدادت أرصدة شركات الإنتاج.
العرّافون يدخلون “الكادر” السينمائي
ولم يخلُ المشهد فوق ذلك من ظلال أسطورية، لإرضاء جمهور الغيبيات الخرافية، فإذا بالعرّافين والمنجّمين يدخلون بدورهم “الكادر”، وإذا بماكينة الإعلام تستقصي توقعاتهم، مع التركيز على سيرهم الذاتية، فصاحبنا تنبأ بمصرع الأميرة ديانا، أو استبصر شخصية الفائز في أربع انتخابات من أصل خمسة، وتلك حذرت من وقوع زلزال تركيا، أو أزمة الائتمان العقاري في العقد الأول من الألفية.
إن الشعوذة السياسية الأمريكية يجب أن تغدو شأنًا كونيًّا، تتطاير أخباره من صحيفة إلى موقع إلى فضائية.
لا شيء يمر بغير وقفات مطوَّلة، كذلك تقتضي عملية التسويق، فتدور عجلات التصنيع السياسية، حتى تمتلئ خزائن الحزبين الأكبر عالميًّا، بأوراق البنكنوت الخضراء، في عملية استثمارية نهمة على الطريقة الرأسمالية، ووراءها تصطف شبكات مصالح وجماعات ضغط وكيانات اقتصادية عملاقة.
الأمور تدور حول “الفلوس”، وهي من العضلات الأمريكية اللازمة، للسيطرة على العالم، حسب فلسفة المرابي الجشع، وليس حسب ما تُفترض أن تكون عليه العلاقات الدولية، في القرن الحادي والعشرين، الذي يوصَف بأنه قرن هيمنة الثقافة الأمريكية.
واللافت أن الحاصل من تلك الهيمنة، إنما تحدث في الوقت الذي تمر الولايات المتحدة فيه، بحالة غير مسبوقة من الوهن، وتتدحرج إلى هاوية عميقة من الضعف على جميع الجبهات، وذلك ليس فقط إثر السقوط الأخلاقي والسياسي، في حرب الإبادة الجماعية على غزة، وإنْ كانت تلك هي الحالة الأكثر افتضاحًا.
ملامح الوهن الأمريكي
اقتصاديًّا، ينفخ التنين الصيني النيران في وجه “القطب العالمي” بصبر شديد، واثقًا في أنه سيحرز انتصاره المنشود في النهاية، وبتكتيك “الفوز بالنقاط” لا الضربة القاضية ينتزع أسواقًا مكتنزة سمينة، ويستحوذ على صناعات كاملة، بل إنه يدسُّ أنفه فيشارك أكبر الصُنّاع الأمريكيين أرباحهم.
هكذا فإن الكمبيوتر الفائق التقدم، والسيارة الفارهة، والهاتف المحمول، وغير ذلك من سلع أمريكية المنشأ، غدت تُصنع حصريًّا خلف سور الصين العظيم، من قِبل نفر من العمال المدربين جيدًا، في بلد من نحو مليار وخمسمئة مليون نسمة.
أما في أوكرانيا، فلا يزال القيصر الروسي بوتين رغم التحالف الأمريكي ضده، قادرًا على مواصلة التقدم عسكريًّا، بل إنه لا يتورع عن تهديد حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحرب مباشرة، والواضح أن لديه مساحة مناورة تؤهله لفرض شروطه، بطريقة أو بأخرى.
أينما تُولّ وجهك فستجد ملمحًا فاضحًا من ملامح الوهن، ومظهرًا صارخًا من مظاهر التهافت الأمريكي، لا تخفي الأساطيل والقواعد العسكرية -المبعثرة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا- حقيقة ذلك.
لكن في “اللقطة الهوليوودية” وحدها تبقى أمريكا في الصدارة، تنتفش كالطاووس المزهو بألوانه، في عيون حلفائها وأعدائها معًا، فيقتنعون بقدرتها الفائقة على دحر من يخرج عن طوعها، في محاكاة لأفلام “رامبو” ذات الأربعة أجزاء.
كذلك تسير الأمور في بلد اخترعت مفاهيم الدعاية الحديثة؛ “اصنع بدولار، وأنفِق على الدعاية أربعة، وبِع بخمسة عشر دولارًا”.
لا منتج سياسيًّا ذا قيمة في بلاد “الكاوبوي”، وانتخاباتها مثل أفلامها، تجارية بحتة تُطرح في الأسواق للاستهلاك، ولا مجال للأسئلة المعيارية والمعنوية حول القيم والقيمة، ولا مساحة لفلسفة الجمال والأخلاق، ولا لأي شيء أخلاقي.
غير أن الدعاية المصمَّمة في إطار استراتيجيات الغزو الثقافي الأمريكي، تجتاح الكرة الأرضية، عبر جميع الوسائط المقروءة والمسموعة والمرئية، أو من خلال منصات التواصل، فالوسيلة ليست ذات أهمية، وإنما المهم أن يكون الوعي الإنساني العالمي محاصَرًا طوال الوقت، وأن تُقدَّم إليه خلطة الجذب الشعبوية، بما فيها من التوابل الحارة، ولا بد من بعض من مكسبات الطعم “الصناعية”.
والمؤسف أنه على الرغم من سماجة الفيلم، وأحداثه المكررة الرتيبة ونهايته المحتومة، تشرئب أعناق العرب وتُستنفر حواسهم ترقبًا لما سيحدث، وهم يتحرقون شوقًا أن يدرك التغيير واقعهم البائس، انطلاقًا من متغيرات البيت الأبيض.
ليس سرًّا أن أي تغيير يمس العرب، جراء نتيجة الانتخابات الأمريكية، لن يكون إلا طفيفًا، ولن يتخطى ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري من تباين شكلي، إزاء تنفيذ الخطوط العريضة للسياسات الأمريكية الثابتة والمحدَّدة سلفًا، وفي القلب منها دعم إسرائيل، وغض الطرف عن الديكتاتوريات العربية متى التزمت بذلك.
صحيحٌ أن هاريس تبدو أكثر تعقلًا من ترامب، لكن من الصحيح أيضًا أن تغييرًا لن يأتي على صهوة حصان أمريكي يمتطيه راعي بقر نبيل، فالحكاية “شغل سيما”، وهذه هي انتخابات “أمريكا شيكا بيكا”، التي تُباع مع “الكولا” لتسهيل هضم الوجبات السريعة، التي تصفها منظمة الصحة العالمية بأنها “فقيرة الجودة وعالية السعرات ومسببة للأمراض”.
