«بهاء طاهر».. أن تنتمي إلى الحرية
بالقدر نفسه الذي آمن فيه بدور المثقف وقدرته على صياغة واقع أكثر جمالًا وإنسانية، هاجمت أعماله هؤلاء المثقفين الذين خانوا الناس واختاروا أنفسهم بالتماهي مع السلطة، أي سلطة، فأضحى بهاء طاهر هو الأكثر صدقًا في الإيمان بتأثير المثقف وفي نقد خيانته في الوقت نفسه.
كنت في عام 2016 أدفع ثمن حقي في التعبير عن الرأي في سجن مزرعة طرة، خلال الزيارة الأسبوعية وقعت على كنز، سمحت إدارة السجن بدخول أربع روايات كانت كلها للرائع الراحل بهاء طاهر الذي تمر ذكرى رحيله في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsينتقمون لخسائر الحرب بالمذابح والاغتيال
عن الصواريخ الإيرانية وما بعدها
كلمات وقنابل: كيف تبرر وسائل الإعلام الغربية الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية؟!
في السجن ليس هناك ما هو أهم من أن تصارع الوقت بقراءة كتاب!
“شرق النخيل” و”قالت ضحى” و”واحة الغروب” و”الحب في المنفى”، قضيت معها ساعات من المتعة الخالصة، تلك السطور التي كتبها بهاء بروحه حملتني لساعات إلى براح الحرية رغم أني كنت لا أزال أقيم بين الجدران الكئيبة.
خيانة المثقفين وهزيمتهم
بدرجة انشغاله نفسها بدور المثقفين كان السؤال الصعب حاضرًا في روايته “واحة الغروب”: هل يخون المثقفون الثورات والقضايا الكبرى حفاظًا على مواقعهم ونفوذهم؟
فيما بعد ثورة يناير (كانون الثاني) ببضع سنوات، بدا سؤال بهاء طاهر أكثر توهجًا وجدية، فقد اختار الكثير ممن دافعوا عنها وشاركوا فيها أن ينقلبوا عليها.
اختار ضابط البوليس وبطل “واحة الغروب” محمود عبد الظاهر أن ينقلب على أفكاره، وأن يخون مبادئه وإيمانه بالثورة العرابية ليحافظ على منصبه ونفوذه.
انتابه الخوف وتراجع عن انحيازاته في أول مواجهة حقيقية، وبات بعيدًا عن الناس والحرية والاعتقاد بحتمية الخلاص من الاستعمار، اختار مصلحته الشخصية في لحظة تناقض يكشف عنها طاهر تنتاب الكثيرين ممكن يتحدثون ليل نهار عن المبادئ.
بنص ما كتبه طاهر في روايته البديعة، هدم الضابط المعبد التاريخي الشهير في واحة سيوة ليتخلص من عبء التاريخ وضغطه وإيحاءاته ورسائله، فزاد من خصامه للمبادئ والتاريخ وهو يظن أنه سيهرب من عبء الضمير الذي يحاسب ويسائل.
في القدرة على السيطرة على الضعف الإنساني ومواجهة الأقدار بشجاعة ما يفرق بين الإيمان بالمبادئ والحديث عنها فقط، هذه رسالة بهاء طاهر الخالدة.
بقدر ما اهتم في كتاباته بقضية المثقفين، كان أدب بهاء طاهر يحمل رائحة الهزيمة الداخلية للمثقف، فهو ابن جيل الستينيات الذي هدمت صدمة يونيو/حزيران 1967 كثيرًا من قناعاته ومزقته من الداخل، فبات الإحساس بالهزيمة ظاهرًا في شخصياته وسطوره أو فيما بين السطور.
في مجموعته القصصية الأولى “الخطوبة” ظهر مدى تأثر طاهر بهزيمة يونيو، وانطبع الإحساس القاسي في أشخاص قصصه الذين كانوا يعانون القهر والقمع والانكسار وقلة الحيلة.
رغم الهزيمة التي عاشها وعاش بها جيل الستينيات فقد بدت روح المقاومة حاضرة دائمًا، فرغم قسوتها فإنها لم تكن استسلامًا نهائيًّا للأقدار.
في رائعته “الحب في المنفى” يتكشف أدب طاهر المقاوم حيًّا ونابضًا وهو يرفض تصفية القضية الفلسطينية، ويوجه إدانته إلى العالم الذي يقف صامتًا في مواجهة الجرائم في حق الشعب الفلسطيني.
للمرة الثانية يبدو ما كتبه أديب جيل الستينيات معبّرًا عن واقعنا الذي نحياه رغم مرور عشرات السنين على كتابته، من خيانة المثقفين لقضاياهم إلى الانتصار لشعب عربي يقبع تحت احتلال عنصري بغيض.
لم يتخلص طاهر -وأدبه- من الإحساس بالهزيمة ومرارتها إلا أنه لم يستسلم لها فيما ترك لنا من تراث بديع ومحرض على الفعل.
هذه حقيقة تؤكدها العودة إلى ما كتب!
الحرية اختيار
بقدر ما عانى هو شخصيًّا من الاضطهاد والتضييق انحاز بهاء إلى الحرية، فخروجه من عمله الإذاعي في عهد الرئيس السادات واضطراره للسفر إلى سويسرا بسبب التضييق والحصار خلق بداخله حزنًا دفينًا ورفضً مطلقًا للاستبداد ظهر في كتاباته.
تزينت كتاباته -وهو الذي عاصر عددًا من الأنظمة السياسية في مصر- بإدانة القمع والطغيان، وبرفض سلوك الحكام في التضييق على حريات الأفراد وإبداعهم، ورغم انتمائه الفكري والوجداني إلى تجربة حكم جمال عبد الناصر و23 من يوليو/تموز، كان استنكاره وإدانته لمصادرة الحريات والتضييق على الأفكار في العهد الناصري واضحًا دون أن تخطئه عين.
حفلت كتاباته من “الحب في المنفى”، إلى “قالت ضحى” إلى مجموعته الأولى “الخطوبة” برفض القمع واستنكاره بلغة غير مترددة.
اختار بهاء الحرية أولًا وأخيرًا، وآثر أن يمارس ارتباطه بالحياة العامة من خلال عمله كاتبًا وأديبًا لا سياسيًّا منحازًا إلى حزب أو جماعة، ومع ذلك كان حاضرًا في كل المواقف التي يدافع فيها المثقفون عن الحريات العامة، بداية بحركة كفاية التي ألقت الحجر الأول في مياه عصر مبارك الراكدة، وانتهاءً بمشاركته ودفاعه عن ثورة يناير الخالدة.
تجربة الكاتب الخاصة
رغم تأثره بأستاذه في الرواية الراحل الكبير نجيب محفوظ فقد تمسك بهاء طاهر بروحه الخاصة فيما كتب، وخرج من عباءة الأستاذ الأهم والأروع في الأدب بعد أن خط لنفسه طريقًا اختار أن يسير عليه، فعلى قلة إنتاجه مقارنة بمحفوظ استطاع أن يدخل في قصصه ورواياته إلى كل المساحات الشائكة، وأن يشتبك بلغة أدبية شعرية مع الحياة العامة بشكل فاعل، وأن يشير إلى مساحات الخلل والفساد في واقعنا العربي وفي أفكار مثقفينا، وأن يصعد بقضايا غياب العدل وحصار الحرية وغيرها من ظواهر سلبية تنتشر في مجتمعاتنا العربية إلى براح الكتابة معبّرًا عنها بصيغ فنية بديعة خطها في تجربته الخاصة والمتفردة.
لم يؤمن بهاء إلا بالأدب المشتبك مع الواقع، وربما هذا هو الدرس الأهم لكثير من الكُتاب العرب الآن، فكل كتابة لا تتقاطع مع قضايانا الكبرى هي والعدم سواء، وقيمة الكتابة والأدب تتجلى في رسم دروب جديدة تتحرك بالناس وتنقلهم من الأوطان المسكونة بالقمع والقيود إلى مساحات أخرى من الحرية والتقدم.
إنها رسالة بهاء ورسالة كل من يملك منبرًا يطل منه إلى الناس الذين ينتظرون أن تعبّر السطور المكتوبة عن أمانيهم وأحلامهم وواقعهم الصعب.