حلم شباب إفريقيا على طريقة “القط الصيني”!
تحولت إفريقيا إلى ساحة مركزية للمنافسة بين القوى العظمي، بعد عقود تخلصت فيها من براثن الاستعمار العسكري، فإذا بالأزمات المالية تسقطها في فخ الديون والاضطراب الاجتماعي، لتعيد مشاهد الماضي الكئيب، حيث الفوضى والمجاعات والانقلابات العسكرية.
أصبحت القارة طاولة شطرنج، تتنافس على أرضها الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا. منهم من يرتدي ثوب التجار، وآخر يتخفى وراء أمواله وقدرته على الإقراض، وهناك من يتحصن بالسلاح عبر قوات عسكرية وشبه عسكرية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsينتقمون لخسائر الحرب بالمذابح والاغتيال
عن الصواريخ الإيرانية وما بعدها
كلمات وقنابل: كيف تبرر وسائل الإعلام الغربية الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية؟!
تدفع الأزمات الاقتصادية قادة إفريقيا وحكوماتها إلى طلب قروض ولو مشروطة، لمواجهة نقص الغذاء وبناء مشروعات تستوعب العاطلين، في قارة تعدادها 1.2 مليار نسمة، يُنتظر أن يصلوا إلى 2.5 مليار بحلول عام 2050.
تحتاج القارة إلى مضاعفة الاستثمارات بما لا يقل عن 30% من الناتج المحلي، وفق تقديرات أكبر صندوق للتحوط في العالم “بريدج ووتر أسوشيتد” لتحقيق معدلات نمو 5%، وإلا تعرضت لمزيد من الاختلالات المالية والفقر والمجاعات، في ظل زيادة بعدد السكان الأسرع نموا بالعالم، بنسبة 3% سنويا.
تبحث الحكومات عن حلفاء تساعدها في مواجهة نقص التمويل، وضمان بقائها في السلطة، بينما يظل للشباب رأي آخر.
قلق الشباب
يشعر شباب إفريقيا بالقلق إزاء النفوذ القوي للدول الكبرى والقوى الأجنبية التي تطوق الحكومات والشعوب، خاصة صاحبة الميراث الاستعماري. يأمل الشباب شراكات أكثر عدالة بالمشهد الاقتصادي والسياسي، خوفا من تأثير التدخل الأجنبي على دول القارة.
في دراسة لمؤسسة إيتشيكويتز “Ichikowitzfoundation.com” المتخصصة في أبحاث السياسات واستطلاعات الرأي العام بين شباب إفريقيا، بإصدارها الأخير، بيّنت تراجع النظرة الإيجابية للولايات المتحدة بمعدل كبير من 87% عام 2020 إلى 79% عام 2024، مع صعود التأثير الإيجابي للصين من 78% إلى 82% خلال الفترة نفسها، ويشعر 75% من الشباب الأفارقة بالقلق بشأن تأثير الدول والمنظمات الأجنبية على القارة وفي بلادهم، متراجعا من 18% عام 2020.
تعكس الأرقام استياء الشباب المتزايد من التدخل الأجنبي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وتراجع الثقة في القوى الثقافية والتقليدية التي تربطه بالغرب، ووجود تحوّل دقيق في تصورات الشباب تجاه الصين.
يحمل 7 من بين كل 10 أشخاص من بين عينة قوامها 5604 -تتراوح أعمارهم من 18 إلى 26 عاما من 16 دولة إفريقية سمحت بإجراء الدراسة- نظرة إيجابية إلى الصين، بما يقارب مستوى الرؤية الإيجابية التي تحتلها الولايات المتحدة، بسبب الدعم الاقتصادي المقدَّم من واشنطن إلى دول القارة.
على الرغم من أن روسيا يُنظر إليها على أنها واحدة من أكثر القوى الدولية نفوذا بالمنطقة، حيث تقدم الأسمدة والقمح مجانا إلى بعض الدول، وساعدت أخرى بالسلاح في حروب التحرير، فإن نسبة متزايدة من الشباب ينظرون إلى تأثير هذا النفوذ في بلادهم سلبا، بسبب التأثيرات الضارة الناتجة عن انخراط روسيا في الصراعات داخل دول القارة وخارجها، دفعت بأسعار السلع إلى الارتفاع منذ غزو أوكرانيا، وألحقت خسائر فادحة باقتصادات تلك الدول، بما جعلها بحاجة ماسّة إلى مزيد من القروض التي لم تستطع الوفاء بسدادها ولا تتحمل تبعات الجديد منها.
تتجه تصورات الشباب عن الاتحاد الأوروبي إلى التدهور من عام إلى آخر، وبخاصة فرنسا التي كانت تتمتع بنفوذ ثقافي وسياسي قوى داخل القارة، حيث انخفضت من 58% عام 2020 إلى 48% في 2024، متأثرة بدورها في دعم الأنظمة الاستبدادية والانقلابات العسكرية وسوء إدارة الاقتصاد، التي تدفع الشباب إلى الاحتجاجات أو الهرب من بلدانهم، عبر قوافل الهجرة غير النظامية.
نفوذ الصين
تأتي تصورات الشباب عن الصين بحكم الواقع الذي يحيونه، حيث يرون دورها إيجابيا في توفير منتجات بأسعار معقولة، وتقديم استثمارات في البنية التحتية، تخلق فرص عمل وتوفر سوقا لتصدير المنتجات المحلية.
رغم تراجع نفوذ الصين من 83% عام 2020 إلى 76% في 2024، بسبب مخاوف الديون المتزايدة وتباطؤ المساعدات التي تقدمها بيجين إلى دول القارة منذ انتشار وباء كوفيد-19، فإن العوامل المؤدية إلى التصورات السلبية عن الصين تتركز في عدم التعويض العادل من الشركات الصينية لقيمة الموارد الطبيعية بالقارة، وممارسة الاستثمار كشكل من أشكال الاستعمار الاقتصادي، حيث الاحتكار وعدم الاستفادة من العمالة المحلية وجلب صينيين للعمل دون الاستعانة بالسكان الأصليين، وإقامتهم بداخل المناجم والمصانع دون مراعاة للقيم والتقاليد، واصطحاب شركات أمن خاصة لحماية المديرين والمنشآت، وعدم نقل المهارات إلى العمال المحليين، ومواجهة الدول صعوبات في سداد القروض.
ارتباك الشباب
يعكس استطلاع رأي الشباب حالة الارتباك التي أصابتهم، من حجم التناقضات التي تعيشها 54 دولة بالقارة السمراء، لا يجمعها هدف واحد، أغلبها غارقة في الديون والفساد، مثقلة بالصراعات، تحكمها نخب استبدادية متشبثة بالسلطة مدى الحياة، وأخرى تُجري انتخابات يشوبها الاحتيال والعنف، تواجه أزمات زادتها الحروب الخارجية والداخلية والأوبئة سوءا، تدفع الشباب إلى الهجرة، أو قبول العيش في ظل أنظمة تعاني هشاشة في الحكم الديمقراطي.
تراجعت رغبة الشباب في العيش في ظل ديمقراطيات قائمة على النمط الغربي من 40% عام 2022 إلى 38% في 2024، مع ذلك ارتفعت نسبة المتمسكين بالديمقراطية من 54% إلى 60% خلال الفترة نفسها، ممن لا يشترطون أن تكون على النمط الغربي، وإنما على أسس نظام ديمقراطي خاص بكل دولة، يرتكز على تحقيق المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، وانتخابات حرة نزيهة، وحرية التعبير والحق في محاكمة عادلة، وحرية الصحافة والحق في التجمع والتظاهر.
نزيف الثروة والسيادة
يتسبب العداء بين الصين والولايات المتحدة في إصابة 90% من الشباب بالقلق، الأمر الذي يدفعهم إلى المطالبة بالتخلص من نظام عالمي تهيمن عليه الدولتان اللتين تستنزفان ثروات القارة، ونشر الفساد عبر القروض المشروطة، وامتيازات الشركات التي تستغل الموارد الطبيعية في بلادهم. يبحث الشباب عن نظام بديل، أكثر عدالة لإدارة النظام المالي وحماية مقدرات الشعوب.
يندفع الشباب نحو براغماتية ابتدعتها الصين عام 1979، عندما أطلق الزعيم الراحل “دينغ هيساو بنغ” دعوته إلى التحول لسياسات السوق، هربا من القيود الشيوعية وتأميم الثروات التي جلبت المجاعات والفقر المدقع، لشعب يمثل خمس سكان العالم. أطلق دينغ شعار “لا يهم أن يكون القط أسود أم أبيض، ما دام قادرا على اصطياد الفأر”. آمن الشيوعيون بإمكانية صناعة نظام ديمقراطي على طريقتهم الخاصة. لم يتحقق حلم الصينيين بالديمقراطية، بينما تحولت البلاد خلال 4 عقود إلى ثاني أكبر اقتصاد، وأكبر مقرض لإفريقيا، وأكبر شريك تجاري لـ50 دولة بالقارة.
تدفع العلاقات الصينية بإفريقيا إلى زيادة اهتمام الغرب بالقارة السوداء، رغبة منهم في اقتناص الفرائس، في ظل غياب زعامات تاريخية قادرة على اخراج الدول من فقرها ومقاومة الاستعمار الجديد. تتعايش النخبة مع قواعد “لعبة الأمم”، بينما يراهن الشباب على الأمن الاقتصادي والفوز بالديمقراطية، ولو بعد حين.