تونس.. أن تصنع الوحش وتنتظر رحمته
ظللت لأعوام، ترددت خلالها على تونس وأقمت بها بعد الثورة، أتأمل كيف تفكر قطاعات من نخب هذا البلد الأكثر تجانسا وحداثة في محيطه العربي؟ فضلا عن تمتعه بعد خمسينيات إعلان “الاستقلال” ببلداننا بتقدم نسبي على أصعدة التعليم والثقافة وتحرر المرأة وحقوقها والمجتمع المدني والحركة الحقوقية.
وكان باحثون قد أحالوا اندلاع انتفاضات وثورات عرب القرن الحادي والعشرين من تونس إلى قرب البلد من أوروبا، وشيوع اللغة الفرنسية والفرانكفونية. وشخصيا لاحظت تغلغل عادات الطعام الأوروبية إلى بلدات أعماق البلاد جنوبا وغربا، كتناول “الكرواسون” وحلوى “الملفي” مع القهوة غير التركية ولا العربية بمقاهي الصباح الباكر في الطريق إلى العمل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsينتقمون لخسائر الحرب بالمذابح والاغتيال
عن الصواريخ الإيرانية وما بعدها
كلمات وقنابل: كيف تبرر وسائل الإعلام الغربية الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية؟!
ثقافة أخرى
خلف تونس الاستثناء
لكنني قبل منتصف عشرية ما بعد الثورة بدأت أدرك ثقافة أخرى، كامنة ذات سطوة، خلف “تونس الاستثناء” في الانتقال الديمقراطي والتغيير والمواطنة وعصر المؤسسات والبرلمانية وتداول السلطة سلميا، وما يقال عن “التأثيرات الأوروبية”.
وهذا بالطبع كان قبل أن يجرى الانقلاب على المفاهيم والمصطلحات أيضا. وتصبح العشرية “سوداء” حالكة السواد فجأة مع انقلاب 25 يوليو 2021 على دستور الثورة ومؤسساتها. وسرعان ما صحبه قبول لافت بين النخب وكبريات منظمات المجتمع المدني بهذا الوصم، تتقدمها تلك التي حازت جائزة “نوبل ” العالمية للسلام 2015 لرعايتها الحوار الوطني، الذي أنجز توافقا قيل حينها إنه جنب التونسيين مصائر دول عربية أخرى.
في الذاكرة وقائع وملاحظات على التفكير اللاعلمي كأساس لثقافة معادية للديمقراطية عند نخب تونسية تملأ كتابا قائما بذاته، وكغيرها من نخب المجتمعات العربية، وبلا استثناء تقريبا.
الطلب على
رجل قوى
إلى تلك السنوات السابقة على ظهور “قيس سعيد” تحت الأضواء، أدركت ارتفاع الطلب على “رجل حاكم قوي”، قادر على حسم السياسات والخيارات، منهيا ما جرى اعتباره “ترف الديمقراطية والتعددية البرلمانية” و”فوضى الحريات العامة” و”تعطيل الانتاج”، وبانتهاز تعثر “بناء المؤسسات” عفوا، أو بسوء نية وتعمد.
بحلول ربيع 2018، ومن داخل أروقة البرلمان الذي لاحظت أن لا كتلة وازنة ولا نائب جادا جهر بانتقاد تردي أوضاع المعيشة مع الحريات ومصادرة حق الترشح للرئاسة في مصر، وهو أيضا ما كان من نواب حزب حركة النهضة. وللأسف ها هي تونس 2024 تلتحق بهذا الحال والمآل. وبعدما انخرط مثقفون تونسيون في تمجيد “البطل منقذ مصر والعالم العربي من الإخوان”، غير عابئين بالعواقب على فرصة الديمقراطية التي لاحت، وتفاقم معاناة المصريين.
عصا التخلف
في العجلات
خلف العناوين البراقة المتفائلة للحداثة التونسية، المقبولة على نحو أو آخر عند إسلاميي “حركة النهضة” وبالأخص قيادتها، كان التخلف يعمل، ويشتغل باتجاه الماضي لا المستقبل. يضع العصا في العجلات، وقبل أن يظهر حفارو القبور لدفن أهم محاولات التغيير نحو المواطنة بعد الثورات العربية.
تهرب كثيرون من الإجابة على أسئلة العيش الملحة للناس والمستقبل. وضربت معاول التخلف، فأعادت انتاج “الزعيم” بورقيبة، واستدعته من الماضي بدعوى مواجهة صعود الإسلاميين، وفي صورة “الأب للتونسيين”، ولو بعد الموت وخارج الزمان، وبعدما حكم التاريخ برسوبه في اختبار الديمقراطية.
وانتجت هذه المعاول نظاما دستوريا سياسيا هجينا يمنح رئيس الدولة ما يسمح بتقويض البرلمان والبرلمانية. وحفرت بعمق أسفل ظاهر مجريات الانتقال إلى الديمقراطية لفخ الرهان على “الرئاسة الزعامة” من “السبسي” إلى “سعيد”. وهكذا أسهم الأول في عرقلة المضي على طريق المؤسسات والمؤسسية، وحتى رأى ألا داعي لاستعجال إقامة المحكمة الدستورية، وجهر بمخاوف رجل مشدود إلى “دولاب دولة الاستبداد الوطنية” إزاء المؤسسات ورقابة المجتمع المدني. وانتقل الثاني إلى الهجوم، فأطاح بما تحقق منها، أو ما كان غضا يتقدم بصعوبة.
سيادة التفكير
غير العلمي
فيما جرى لتونس مع انتخابات رئاسة 2024 ما يفيد جناية غياب التفكير العلمي والثقافة الديمقراطية انعكاسا لحداثة معطوبة هشة. وهو ما يفسر استقبال مثقفين تونسيين وكبار بالترحيب والتهليل والثقة العمياء لأحكام القضاء الإداري بإعادة ثلاثة مرشحين جديين إلى هذه الانتخابات، مع حضور تعبيرات من قبيل ” مازالت دولة قانون”.
وكيف جمعت لحظة التفاؤل المخادع بين من عارضوا منذ اللحظة الأولى 25 يوليو وإغلاق البرلمان بمدرعات الجيش وقوات الأمن، وبين من أيدوا وتحمسوا وباركوا، أو تغاضوا وصمتوا، ومن التحقوا تاليا وعلى دفعات بالمعارضة على مدى نحو ثلاث سنوات؟
من غير المناسب أو اللائق استخدام أوصاف “السذاجة” و”الغفلة” لوصف الاعتقاد بأن بضعة أحكام قضائية أصدرها مجموعة قضاة، أصبحوا استثنائيين في استقلاليتهم، ستكون جديرة بالاحترام والانصياع من سلطة “دولة الشخص”، ومن هيئة انتخابات لم تعد عليا ولا مستقلة. ولأنها ببساطة معينة ممن يعود للترشح لتأبيد “الوضع القائم/ الستاتوس كو”.
عن الحداثة المعطوبة
في تفسير كيف تنتظر وتأمل نخب صنعت الوحش عطفه ورحمته وتسامحه وإرخاء قبضته الحديدية القاسية، وبعدما تركته يرعى في البيت ويتضخم ويقوى، أو في أفضل الأحوال عجزت عن مواجهته؟ علينا أن ننتبه إلى “الحداثة المعطوبة”، وفق التعبير الذي صكه الناقد المغربي محمد بنيس.
ولأنها حداثة لا تقوم على أساس من تفكير علمي موضوعي وثقافة ديمقراطية راسخين، يصبح وزن الأمور وتقديرها رهنا بحدث اللحظة المنتزعة من سياقها الأشمل، وبفوران مشاعر تقودها التمنيات. وهذا ما يحدث موجة “عمى جماعي”، سرعان ما تتحطم على صخرة الواقع بحدث لاحق يستدعى بقوة حضور سياق الواقع الاستبدادي البائس من النسيان، ويدخله مجددا إلى مجال الإبصار والنظر والإدراك والوعي.
العقلية الريعية
والنظر تحت الأقدام
تتفوق مظاهر التحضر في تونس وتعلن عن نفسها مقارنة بغيرها من المجتمعات العربية التي عرفت التمدن والمدنية منذ قرون، بما في ذلك نسبة سكان المدن (32 في المائة) علاوة على تحضر الأرياف. لكن من قال بأن هذه المعطيات الإحصائية تعني الشفاء التام من كوامن العشائرية، وغيرها من انتماءات وثقافة ما قبل الحداثة. أو ألا يعاد انتاجها لتحيا بين زعماء السياسة والسلطة المطلقة باسم التدين أو الوطنية إلى المبالغة والهوس في تشجيع فرق كرة القدم ونجومها حد التعصب والعنف اللفظي والمادي؟
ومن بإمكانه الادعاء بأن تونس تحررت من سطوة العقلية الريعية المنسجمة تماما مع الاقتصاد الريعي القائم على هامشية الانتاج والعمل والإبداع والابتكار، وكما هو حال مجمل عالمنا العربي بتكويناته المجتمعية ووحداته الجغرافية السياسية الأقدم والأحدث؟
من سمات التفكير غير العلمي الناتج عن العقلية الريعية النظر على المدى القصير و(تحت الأقدام). وانسجاما مع المكاسب السريعة والأرباح السهلة، انتظر مثقفون تونسيون العطف والرحمات من الوحش.
*
خطوة للأمام أن تخرج مظاهرة كبيرة يوم الجمعة الماضي مطالبة برحيل الحاكم الفرد مع استعادة مفردات قاموس الثورة المغدورة. وهذا لأن حضور التونسيين غير المتحزبين وخارج النخب كان لافتا، مع مشاركة أطياف سياسية لفرقاء السياسة متناحرين أوسع مما كان على مدى السنوات الثلاث الماضية.
لكن يظل من تجليات التفكير غير العلمي هذه النشوة السياسية المبالغ فيها بالتعبئة في الشارع، وعلى نحو لا يملكه يقينا قيس سعيد ودولته لا أمس ولا اليوم، ومعها الاعتقاد بردع الطغيان عن انتخابات مزورة سلفا بالخروج في مظاهرة والعودة للبيوت.
وكأننا أمام إشعال النار لإبعاد الذئب ليلا، لا التقدم لاصطياده، وكلنا في الهم شرق.