هل أخطأ شيخ الأزهر حين قال: المفاضلة بين الأديان متروك لله؟!
من أسوأ ما أصاب حياتنا العلمية والثقافية: الفهم الخاطئ والسريع لكل ما يصدر عن الخصوم، سواء كانوا خصوما سياسيين، أو ثقافيين، أو دينيين، وينسى بعض من يتسرع في الحكم على الكلام، أنه يعتمد على عنوان موقع، أو اجتزاء من صحفي، لأن عادة المواقع تأخذ الجملة التي تجذب المشاهد، ولو كانت الجملة مجتزأة، أو غير دقيقة، أو غير كاملة، ولو تمهل المعلقون وشاهدوا أو قرأوا الكلام كاملا، لتغير موقفهم، ولاكتشفوا أنهم تسرعوا.
تلك آفة أصبحت حاضرة، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تغذيها بشكل مرعب، ولكن الأكثر قلقا أنها بدأت تصيب شريحة كان الأولى بها التمهل، أتابع ذلك كثيرا، فأجد باحثين وإعلاميين، يقعون في هذا المزلق، ومن هذه المزالق ما صدر عن شيخ الأزهر مؤخرا في احتفال المولد النبوي بمصر، حيث تكلم قائلا: إن المفاضلة بين الأديان والأنبياء، أمر متروك لله وحده، وعلى من يتعرض لذلك أن يتبع النصوص، ويقتفي أثرها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsكان ناصرياً في زمن ما..!
في لبنان انقلب السحر على الساحر
ضجيج بالفناء الخلفي للبنان لا ينتظر نهاية الحرب
كلام شيخ الأزهر يقوله كل عالم أزهري:
ذلك كلام علمي دقيق، يصدر عن عالم دَرَس ودَرَّس العقيدة الإسلامية في كبرى الجامعات الإسلامية والعالمية، في جامعة الأزهر، والرجل لم ينف هنا وجود نصوص تفاضل، أو تكرم، لكنه ينفي أن تكون هذه المهمة موكولة لعقول البشر، أو لاجتهاداتهم الفردية، لأن الرسل والإيمان بهم، هو من عالم الغيب، حيث إن الرسل السابقين لم يرهم من عاصروا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن أتوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا يعد ذلك من باب الإيمان بالغيب، وعالم الغيب لا يحكمه في الشرع سوى الوحي؛ الوحي بشقيه القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
وهذا ما قصده تحديدا شيخ الأزهر، ولم يقصد سواه، وهو مبحث علمي، درسناه في الأزهر الشريف في مرحلة الثانوية، ودرسناه في الجامعة، ومن تخصص في العقيدة درسه في مبحث: التفاضل بين الأنبياء، ومن درس التفسير مر بالمبحث عند أكثر من موضع في تفسير آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)، وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله)، ومن درس الحديث مر بالمبحث ودرسه، في نصوص نبوية كثيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوا بين الأنبياء”، وهل يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”؟! بل ومن درس الفقه المذهبي سيجد في معظم كتب المذاهب في مقدماتها تشرح ذلك، لأن المتن يكون فيه مثلا: والصلاة والسلام على خير البشر، فنجد الشارح يناقش هل يجوز ذلك أم لا؟ وهل هذا يتعارض مع نصوص أخرى أم لا؟
إذن هذه المسألة: كل أزهري درس أي تخصص شرعي، مر بالمسألة في مراحل متعددة، منذ مرحلة الثانوية، وحتى الجامعية، فهل تخفى على رجل يجلس على أكبر كرسي في المؤسسة؟! أما المسألة موضع النقاش والخلاف، رغم أني لا أرى فيها خلافا مع الرجل، فهو وضع المبدأ العام، والقاعدة الكلية في ذلك، وهو أن التفضيل أمر إلهي، وعلى من يقول به أن يأتي بنص إلهي، والنصوص موجودة، وهو لم ينكرها.
موقف الشرع من التفاضل بين الأنبياء:
لقد ناقش العلماء قضية التفضيل، ولكنها يجب أن تكون البداية من قوله تعالى: (ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِ) البقرة: 285، ولا يصح إيمان أحد بدون إيمانه بكل الرسل، وكلهم في مكانة واحدة من حيث النبوة والرسالة.
هذا هو الأصل في النظرة للرسل والأنبياء، وأن مسألة التفاضل إذا كان سينتج عنها حمية وعصبية، ومشكلات دينية، فليس مطلوبا، وهو في الغالب مقصود شيخ الأزهر من كلامه، وهو ما ورد في شأنه قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوني على موسى”، فقد كان سبب الحديث كما ذكر الإمام الطحاوي: أن يهوديا قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه مسلم، وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموما، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموما، فإن الله حرم الفخر.
وقد قال تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) الإسراء: 55. وقال تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) البقرة: 253. فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول. وعلى هذا يحمل أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوا بين الأنبياء”.
وقد تناول العلماء حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوا بين الأنبياء”، بناء على هذا الفهم، وجمعوا بينه وبين النصوص التي تبين تفضيل بعضهم على بعض، فأجاب العلماء عنه بخمسة أجوبة مشهورة:
1 – أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى قبل أن يعلم أنه أفضلُهم، فلما علم قال: “أنَا سَيّدُ ولدِ آدَمَ”.
2 – والثاني: أنه نهى عن تفضيلٍ يؤدي إِلى الخصومة، كما ثبت في الصحيح في سبب هذا الحديث من لطم المسلم اليهودي.
3 – والثالث: نهى عن تفضيلٍ يؤدي إِلى تنقيص بعضهم لا كل تفضيل، ويؤيد هذا قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ).
4 – والرابع: قاله تواضعًا.
5 – والخامس: نهى عن التفضيل في نفس النبوة، لا في ذوات الأنبياء، وعموم رسالاتهم، وزيادة خصائصهم.
خلاصة كلام شيخ الأزهر:
إذن معنى كلام شيخ الأزهر هنا، واضح ومحدد، في نقاط محددة نوجزها فيما يلي:
1ـ أن مقام النبوة كله مقام واحد من حيث الإيمان بهم، ولا نفرق بين أحد منهم.
2ـ أن الدخول في سياق التفاضل بينهم وبين رسالاتهم، أمر لا يحسمه إلا النص الإلهي، فحيثما ورد نتبعه، وهو ما ورد بالفعل، ولذا وجب التقيد والالتزام به في سياقه.
3ـ أن هذا الحديث بالتفاضل لا يكون مبنيا على الفخر المنهي عنه، أو الانتقاص من الرسل ورسالاتهم.
4ـ ألا يكون سياق الكلام حول النصوص الشرعية في التفضيل، مجالا للعصبية، وإثارة الخلاف الديني، ومجالا للحروب، وسجالا لا ينتهي، ولذا رأينا كثيرا من علماء الأزهر لا يحبذ مبدأ المناظرات، بل كان دوما مرحبا بالحوار بين الأديان، لا مناظرات الأديان.