لماذا تتعثر الأحزاب المدنية العربية في تقديم بديل سياسي؟

تركزت غالبية الكتابات المتعلقة بمسارات التغيير والتطور الديمقراطي والثورات وانتكاساتها على الأحزاب والقوى الإسلامية، ودورها في ذلك، أو اضمحلالها وفشلها في تقديم بديل سياسي ناجح، وقد شاركتُ شخصيًّا ببعض المقالات في هذا النقاش، لكن ماذا عن القسم الآخر للمعادلة السياسية، أي معادلة التغيير الديمقراطي، وأقصد هنا التيارات أو الأحزاب الليبرالية التي شاركت بدورها في قيادة ثورات الربيع العربي، والتي لها جذور ممتدة؟ ولماذا تتعثر هذه الأحزاب الآن في تقديم بديل سياسي، خاصة مع غياب الإسلاميين أو تغييبهم؟
التجارب الحزبية العربية التي انطلقت منذ مطلع القرن العشرين، وازدهرت منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، كانت بداياتها في معظمها أحزاب مدنية، ليبرالية أو يسارية، أو وطنية مهتمة فقط بالاستقلال، ويمكننا هنا أن نشير إلى أحزاب كبرى تسيدت المشهد السياسي في بلدانها، أو حتى تخطت الحدود القطرية إلى بلدان أخرى، مثل الحزب الشيوعي، وحزب البعث، لكن الأحزاب الليبرالية ظلت ذات طبيعة قطرية، وأبرز عنوان لها حزب الوفد المصري المنبثق من ثورة 1919، وبعض الأحزاب الليبرالية المصرية الأخرى استقلالًا عنه، أو انشقاقًا عليه، وفي السودان ظل الحزبان الكبيران (الأمة والاتحادي) اللذين تأسسا منتصف أربعينيات القرن الماضي هما عنوان السياسة السودانية إلى جانب حضور أقل للشيوعيين والبعثيين، والإخوان المسلمين (قبل أن يتعاظم دورهم لاحقًا)، وهنا لا يمكن إنكار حضور بعض هذه الأحزاب الليبرالية أو القومية كإطار سياسي مقنع للشعوب في حينه، وقد تولت بعضها السلطة عقب فوزها في انتخابات برلمانية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
حجة عدم الجاهزية
حديثنا ليس مُنصبًّا على الماضي البعيد، لكنه مُنصب على الحاضر، وما زال السؤال قائمًا: لماذا لم تستطع الأحزاب الليبرالية واليسارية العربية إقناع الشعوب بانتخابها عقب ثورات الربيع العربي وحتى الآن؟ لا يصح هنا تكرار الحجة البليدة أنها أحزاب حديثة التكوين، وكانت بحاجة إلى مزيد من الوقت لبناء هياكلها، وضم أعضاء جدد، والانتشار في المدن والقرى إلخ، فقد كانت هناك أحزاب مدنية قديمة، بل هي أقدم من الأحزاب الإسلامية التي حصلت على الأغلبية أو الأكثرية النيابية في الانتخابات الحرة عقب تلك الثورات، فحزب الوفد مثلًا أقدم تاريخيًّا من جماعة الإخوان في مصر، وحزب العمال (الشيوعي) في تونس الذي تعود جذوره إلى منظمة العامل 1969 هو أقدم من حركة النهضة بكل أطوارها بدءًا من اسمها الأول (الجماعة الإسلامية) عام 1972، وفي السودان فإن حزبَي الاتحادي والأمة أقدم تاريخيًّا من التجربة الحزبية للإخوان بتجلياتها المختلفة (الميثاق الوطني- الجبهة القومية الإسلامية- حزب المؤتمر الشعبي أو الوطني إلخ)، وجبهة التحرير في الجزائر أقدم من الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي سبقتها في أول انتخابات برلمانية حرة بعد الاستقلال عام 1989، وحزب البعث الأردني ظهر في توقيت متزامن تقريبًا مع ظهور الإخوان في الأردن إلخ.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsسوريا الشرع.. بين اقتناص الفرصة ومتاهة المجتمع الدولي
سورة الشورى والأسس الأولية للمجتمع السياسي
حينما تكون الدراما هدفًا وطنيًا
وإضافة إلى تجذر بعض الأحزاب المدنية العربية (عقود قبل ثورات الربيع العربي) فإنها نالت فرصة ثمينة بعد انقلاب الثورات المضادة، التي استهدفت أساسًا التيار الإسلامي الذي تصدّر المشهد السياسي عقب ثورات الربيع، ولكنها لا تزال محدودة الحضور في معظم الحالات، متعثرة عن تقديم بديل سياسي مقنع كما هو الحال في مصر أساسًا، وتونس نسبيًّا، وكما ظهر جليًّا في السودان بعد الثورة الأخيرة التي قادتها أساسًا قوى مدنية ليبرالية ويسارية، ومع ذلك فإنها لم تستطع تقديم نفسها للناخب السوداني في انتخابات حرة، وطلبت من العسكريين تمديد الفترة الانتقالية لأطول فترة ممكنة حتى تستطيع الاستعداد للمنازلة، رغم أن بعضها -كما ذكرنا من قبل- له جذور سياسية راسخة مثل حزبَي الأمة والاتحادي والبعثيين والشيوعيين إلخ.
الفرصة المهدَرة
كانت الفرصة مواتية أمام الأحزاب المدنية في مصر عقب انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، وبدءًا من الانتخابات النيابية في 2014 وحتى الآن، ولكنها لم تستطع ملء الفراغ، بل تركته لأحزاب تم تشكيلها حديثًا لتكون ممثلًا للسلطة، واكتفت الأحزاب الليبرالية واليسارية بالقليل من المقاعد النيابية التي حاول شاغلوها تشكيل ما سُمي تحالف (25-30) في إشارة إلى انتمائهم لثورة 25 يناير وحراك 30 يونيو، ومع ذلك لم يصمد هذا التحالف طويلًا، فضلًا عن محدودية عدده ومن ثَم تأثيره، وفي أحدث الجولات الانتخابية في الأردن غابت الأحزاب الليبرالية واليسارية القديمة، وحل محلها أحزاب تأسست حديثًا لتكون ظهيرًا للسلطة أيضًا، بينما تصدّر حزب جبهة العمل الإسلامي المشهد بحصوله على حوالي ربع مقاعد البرلمان.
من المفترض إجراء الانتخابات النيابية المصرية بعد عام من الآن، ومن المفترض أن الأحزاب السياسية استعدت لهذه الانتخابات الثالثة منذ 2013، في ظل غياب كامل للإخوان وأنصارهم من القوى الإسلامية الأخرى التي حازت أكثرية برلمانية في انتخابات 2012، ومن التحركات التي تستحق الإشارة هنا تأسيس تحالف يساري مؤخرًا ضم بعض الأحزاب اليسارية والناصرية، في حين لا تزال جهود الأحزاب الليبرالية متعثرة لتشكيل تحالف ليبرالي بعد فشل تجربة التيار الحر التي قادها الناشط السياسي هشام قاسم، كما أن الحركة المدنية الديمقراطية التي تمثل العنوان الجامع لعديد من الأحزاب والشخصيات الليبرالية واليسارية أعلنت عن خطة لخوض الانتخابات بقائمة موحدة لها، وهو ما قوبل بالرفض من بعض منتسبيها الذين يرغبون في الترشح بعيدًا عنها وفقًا لحسابات خاصة بهم.
الإجابة عن السؤال عنوان المقال متروكة لهذه الأحزاب التي عليها أن تراجع نفسها، وتبحث عن أسباب تعثرها الحقيقية، لكن المؤكد أن تطور الأحزاب الليبرالية واليسارية ضرورة سياسية لإنضاج المشهد السياسي، وتوفير بدائل جادة ومتنوعة أمام الناخب، كما أن هذا التطور يفيد بدوره في تطوير الأحزاب والقوى الإسلامية، فالقدرات الحقيقية تُختبر حين تنافس منافسين من الدرجة الأولى وليس من الدرجة الثالثة.