“الدولة العميقة” تختبئ خلف مقاعد البرلمان!
بينما قضى أطراف جلسات “الحوار الوطني” عشرات الساعات في مناقشات علنية لتعديلات مطلوبة على نطاق واسع لبعض مواد قانون الإجراءات الجنائية الحالي في مصر، إلا أن ما يمكن وصفهم بأركان “الدولة العميقة” كان لهم رأي معاكس لم يعلنوه بالطبع، ولكنهم مضوا في طريق فرضه عن طريق أذرعهم في مجلس النواب المصري بالتوازي مع جلسات “الحوار الوطني” التي بدأت في 3 مايو/أيار 2023 بعد أن دعا إليه رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي قبل نحو عام من انطلاق جلساته.
تكررت في النقاشات مطالب عدة عن فتح الأفق السياسي، وتوسيع المجال العام أمام حرية الرأي والتعبير، وكذلك إتاحة الفرصة للأحزاب للحراك وممارسة النشاط دون قيود وتضييق أصبح معتادًا ومألوفًا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsكان ناصرياً في زمن ما..!
في لبنان انقلب السحر على الساحر
ضجيج بالفناء الخلفي للبنان لا ينتظر نهاية الحرب
بدا للمجتمعين أن كثيرًا من المطالب يمكن استيعابها أو القبول بها وفق درجات سيتحكم فيها القائم على التنفيذ خلال الممارسة الفعلية، وبدأت تسريبات من تفاؤل حذر لدى بعض الحضور تشي بأن تغييرًا ما ستشهده البلاد ويشعر به العباد، وأن روحًا جديدة ستتصدر واجهة الحراك بعد طول سكون وركود.
الرد بالتصفيق
كان أحد أهم المطالب التي برزت في الجلسة الأولى للحوار هو ضرورة إعادة النظر في المواد المنظمة للحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية الحالي، وكان عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين التي تكفلت بصياغة دستور 2014 سباقًا في كلمته التي ألقاها أمام الجلسة الافتتاحية حيث قاطعه الحاضرون مصفقين بحرارة عندما قال: “إن ملف المحبوسين احتياطيًا يجب أن يُغلق نهائيًا”.
التصفيق الذي قوبلت به كلمة موسى عمومًا وحديثه عن ملف الحبس الاحتياطي تحديدًا لفت الأنظار منذ الجلسة الأولى أن حراكًا واجبًا وخطوات يجب أن تُتخذ في اتجاه تعديلات قانون الإجراءات بما يؤدي لتصفية ملف المحبوسين على ذمة قضايا دون توجيه اتهام جدي أو إحالة للمحاكمة.
عقوبة وليست إجراء
مسألة الحبس الاحتياطي كانت محل نقد دائم من المنظمات الحقوقية داخل مصر وخارجها بعد تعديلات جرت في عهد الرئيس السيسي بوساطة البرلمان أطالت مدة الحبس الاحتياطي دون إحالة للمحاكمة لعامين كاملين وهو ما يتناقض مع فلسفة الحبس الاحتياطي الذي يتحسب للخوف من هروب المتهم أو من قيامه بالعبث وتغيير أدلة اتهامه أو تبديدها.
لكن الحاصل أن السلطات توسعت في تطبيق الحبس الاحتياطي ليس فقط لاستنفاد المدة القانونية الطويلة مقارنة بالقوانين حول العالم، ولكن التطبيق الكارثي وضع خلف القضبان من تجاوزوا مدة العامين بمثلهما أو ضعف ذلك، مما يجعله عقوبة بحد ذاته وليس مجرد إجراء احترازي للحفاظ على أدلة الاتهام أو عدم هروب المتهم.
الصحفيون مروا من هنا
التطبيق المتعسف وغير الرشيد طال الصحفيين المصريين ضمن فئات المجتمع الذين تعرضوا لممارسات ليست فقط مجرد نتيجة لإنفاذ قانون جائر، ولكن الممارسة كشفت عن نهم وجوع واضح للعصف بالحريات بعد أن اتضح أن هذا القانون لا يحظى باحترام القائمين على تنفيذه، فمن بين ثلاثة وعشرين صحفيًا محبوسين احتياطيًا هناك ستة عشر تجاوزوا مدة العامين المقررة في قانون الإجراءات الجنائية الحالي.
الأرقام الدالة تعني بوضوح أنه دون إقرار التعديل الذي تضمنته مخرجات الحوار الوطني، ومع تطبيق نص القانون الحالي فإن سبعين بالمائة من الصحفيين المحبوسين احتياطيًا سيتم إطلاق سراحهم لأنهم تجاوزوا العامين خلف الأسوار دون أن يواجهوا بأدلة اتهام أو يحالوا للمحاكمة.
نقابة الصحفيين شاركت في جلسات الحوار الوطني بكامل مجلسها في الافتتاح، ثم توزع أعضاؤها على الجلسات حسب موضوعات النقاش، لكن النقيب خالد البلشي وهو حقوقي معروف شارك بفاعلية وحدد مطالب كثيرة للجماعة الصحفية كان أبرزها ما تتشارك فيه تلك الجماعة مع باقي أطياف المجتمع المصري، وهو ضرورة غلق ملف الحبس الاحتياطي وتوسيع الحريات العامة.
طقوس الإشارات
ما قاله موسى والبلشي وآخرون كانت إشارات تحذيرية التقطها تياران متضادان أولهما يرغب في الانفتاح على آراء تحتفظ بقدر من الاستقلال عن السلطة دون أن ترغب في صدام لا طائل منه والآخر يرى في الحوار الوطني تنازلًا من النظام لا يجب أن يستمر.
وبينما كان التيار الأول يدير حوارًا عاقلًا مع أطياف المجتمع وصولًا لنقاط اتفاق، فإن التيار الآخر لم تعجبه مجرد الإشارة لتغيير مواد الحبس الاحتياطي، فقرر قطع الطريق على هذا التوجه وشرع في التنفيذ منذ الأسابيع الأولى لانطلاق الحوار، لا لتغيير محدود في بعض المواد كما اتفق المتحاورون، ولكن بتغيير القانون كله وبفلسفة متشددة أكثر من القانون الحالي عن طريق بدء إعداد تشريع جديد للإجراءات الجنائية ومناقشته سرًا في اللجنة التشريعية بمجلس النواب، دون طرح عام يسمح بالأخذ والرد.
مسارات متوازية
ظلت اللجنة التشريعية في مجلس النواب تعمل طيلة ثلاثة عشر شهرًا -كما أعلنت- على مناقشة قانون جديد للإجراءات الجنائية، دون أن تعلن شيئًا للرأي العام، بينما كان أطراف الحوار الوطني الذي ضم شخصيات عامة بينهم صحفيون وحقوقيون بارزون مبتهجون بالاتفاق مع ممثلي السلطة التنفيذية على تخفيض مدة الحبس الاحتياطي في القانون لربع المدة الحالية بحد أقصى.
الإعلان المفاجئ عن وجود قانون كامل قارب على الانتهاء في أروقة اللجنة التشريعية بمجلس النواب كان صادمًا لعدد من المحامين البارزين الذي خذلهم موقف نقابتهم المهادن للقانون الجديد، وقد وجدوا ضالتهم في نقابة الصحفيين التي كلفتهم بإعداد تقرير برأيهم القانوني وتبنته وأعلنته في مؤتمر صحفي.
ما أعلنته نقابة الصحفيين مدعوم برأي فني لمحامين كبار اكتسب أهمية وقيمة أكبر بسبب انخراط اثنين من المحامين الثلاثة الذين أعدوا تقرير “الصحفيين” في جلسات الحوار الوطني، وقيامهم بنفي أن يكون القانون من مخرجات الحوار.
الخروج للعلن
لم تتقبل سراديب الدولة العميقة أن يحدث انقضاض على السيناريو المعد في اللجنة التشريعية، فهاجمت بعنف موقف نقابة الصحفيين وكالت اتهامات عنيفة لنقيبها في بيان زاعق استخدمت فيه لغة الإقصاء والتخوين وهو ما جلب تعاطفًا ولفتًا للأنظار لموقف الصحفيين غير المتناغم مع موقف “المحامين”.
تكفل بيان اللجنة التشريعية الرافض لأي موقف مختلف معها بخروج المشروع السري للعلن بضجيج لم يتوقعه معدوه وسدنته.
فوجئ نقيب الصحفيين نفسه بالتفاف محسوب حول موقفه من بعض المنتسبين لإعلام النظام، لكنه فوجئ أيضًا ببيان ثانٍ أقل حشدًا وأكثر ودًا، من اللجنة التشريعية ذاتها بما يبدوا أنها تجليات التيار الأول ورغبته في امتصاص الأزمة التي تم تأجيل معركتها المقبلة إلى الأول من أكتوبر/تشرين الأول المقبل حينما تنعقد الجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة القانون وتقرير اللجنة التشريعية لتحدد من يفوز بهذه الجولة.
المحصلة أن الجرأة والثبات اللذين تصرف بهما كهنة الدولة العميقة دون أن يهتز لهم جفن كاشفين عن أوضاع لم تتغير وعن طرق قديمة لم تعبدها الثورة الأولى ولا موجاتها وعن أبواب مغلقة لم تفتح رغم الدماء التي سالت والأنفس التي أزهقت تؤكد أن طريق الإصلاح ليس سهلًا على الإطلاق خاصة بعد ما تبين أن الدولة العميقة حاضرة بقوة وفي مؤسسات الدولة كلها، وأنها لا تختبئ فقط خلف مقاعد البرلمان وإن كان هذا ما نراه الآن فقط حتى إشعار آخر.