“موقعة البيجر”.. كيف ولماذا؟
كثيرة هي علامات الاستفهام التي خلّفها الهجوم الإلكتروني الكبير على “حزب الله” اللبناني”، في يومين متتاليين (بعد ظهر يومي الثلاثاء، والأربعاء)، باختراق وتفجير متزامن لأجهزة الاتصال، التي يستخدمها الآلاف من موظفيه وكوادره المدنية، وبعض مقاتليه. لا جدال في أن هذا “الهجوم”، ضربة قوية وموجعة لحزب الله، من الناحية العسكرية. فقد طال منظومة القيادة والسيطرة التي يباشرها حزب الله (في جانب منها)، عبر “أجهزة الاتصال”، بنوعيها (بيجر، وأيكوم إف 82)، التي جرى اختراقها وتفجيرها. لا يقلل من مفاعيل الهجوم وتأثيراته، أن تكون إصابات العسكريين محدودةً عددًا، فمن شأنها (على محدوديتها) إلحاق الضرر بمعنويات جنود الحزب ومقاتليه في الميدان.
بذور الفرقة والشقاق
من زاوية ثانية، فالضربة “نفسية” قاسية جدا على التابعين والمنتسبين للحزب، في حاضنته الشعبية ومؤسساته المدنية؛ إذ إن الأثر النفسي المعنوي هو هدف إسرائيلي مهم لإحداث شقاق، في الجبهة الداخلية بجنوب لبنان و”بيئتها الداعمة”، وإفقادها الثقة بالحزب.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsكان ناصرياً في زمن ما..!
في لبنان انقلب السحر على الساحر
ضجيج بالفناء الخلفي للبنان لا ينتظر نهاية الحرب
هذا “الشقاق” في الجبهة الداخلية مُستهدف إسرائيليا؛ لتوظيفه لصالح جيش الاحتلال بما ييسر العثور على متعاونين مع الاحتلال، وتجنيدهم لأعمال التجسس على الحزب وقواته. لكن هذا لا يعني نجاح “الكيان الصهيوني” في بث بذور الفُرقة بين الداعمين، للحزب، بل نتحدث عن أهدافه وآماله في استعادة الهيبة والردع المفقودين. جيش الاحتلال، بهذا الهجوم، عاد إلى استهداف المدنيين، بعد توقفه عن ذلك في الفترة الأخيرة. وآية ذلك أن “الطيران الإسرائيلي” قام يوم 25 أغسطس/آب الماضي بتنفيذ 40 غارة، بواسطة مئة طائرة مقاتلة حديثة جدا، على مناطق متفرقة بجنوب لبنان، بزعم تدمير منصات الصواريخ، وأن تلك الغارات هي استباق لهجوم حزب الله الثأري ردا على اغتيال إسرائيل للقيادي العسكري بالحزب فؤاد شكر.
تهديدات نصر الله.. ومُسيّرات الهدهد
الغارات الإسرائيلية لم تمنع “حزب الله” أو تعوقه عن تنفيذ هجومه الثأري بالمسيّرات الانقضاضية على قاعدة غليلوت الاستخبارية، في نفس اليوم (25/8/2024). ورغم هذا العدد الكبير من الغارات والطائرات الإسرائيلية المُغيرة، فقد تم تجنب الهجوم قصف المدنيين (باستثناء استشهاد ثلاثة لبنانيين)، بعد أن كان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله قد هدد في وقت سابق بضرب مدنيين إسرائيليين، مقابل اللبنانيين. وقد تعاطى الكيان مع هذا التهديد بجدية في ظل تزامنه مع الكشف عن حصيلة “مُسيّرات الهدهد” الثلاث من تصوير دقيق لمنشآت مدنية واقتصادية وعسكرية حساسة، في حيفا وغيرها.
نسخة إسرائيلية من الطوفان
“حزب الله” اتهم رسميا دولة الاحتلال الإسرائيلي، بارتكاب هذه الجريمة، التي طالت آلاف المدنيين (14 شهيدا، و2900 مصاب) متوعدا بعقاب إسرائيل قريبا. وأكد أن الهجوم لن يُثنيه عن موقفه الداعم للمقاومة الفلسطينية. وهو ما مفاده أن الهجوم يبتغي ردع حزب الله، وإبعاده عن موقفه المُساند لحركة حماس المقاومة. “الحكومة الإسرائيلية” راحت تدُق طبول الحرب على لبنان، وتُحرّك قوات من غزة إلى الحدود مع لبنان، وتطلق التهديدات الفارغة. وذلك في حين يعلم العالم كله فشل حرب “جيش الاحتلال” طوال عام على غزة في استعادة أسراه أو سحق حماس. فكيف بالحرب مع الحزب، الذي يمتلك قوة صاروخية جبارة كفيلة بإلحاق خسائر كبيرة جدا بالإسرائيليين، جيشا، وبشرا، وحجرا. الإعلام العبري، احتفى بتفجير أجهزة الاتصال واعتبره ضربة مؤلمة غير مسبوقة للحزب، ونسخة إسرائيلية من طوفان الأقصى (7/10/2023).
مُغلقة ومُشفرة من دون إنترنت
كيف تم تفجير هذه الأجهزة وهي بالآلاف، في وقت واحد؟ جهاز “البيجر” هو الأكثر استخداما لدى حزب الله. فقد استورد منه آلاف الأجهزة، قبل عدة أشهر (نقلا عن مصدر أمني لبناني). عمر البيجر 75 عاما، اخترعه المهندس الكندي ألفريد غروس. شاع استخدامه في القرن الماضي بشركات البترول، والمستشفيات، وجهات عسكرية. وتراجعت استخداماته مدنيا في العقود الثلاثة الأخيرة، مع انتشار الهواتف النقالة، والإنترنت. البيجر، خفيف الوزن، ويعمل لاسلكيا داخل شبكات مُغلقة مُشفرة، لتسهيل اتصال المؤسسات بالعاملين فيها، أو عملائها جماعيًّا (مهما كانت أعدادهم، أو أماكن وجودهم)، بإشارات ضوئية، أو رسائل نصية لهم من دون إتاحة الرد للمتلقين. الجهاز مزود ببطارية ليثيوم، ولا يعتمد على شبكات الهاتف أو الإنترنت؛ مما يجعل اختراقه صعبا، أو هكذا كان الظن. “حزب الله” يستخدم البيجر للتواصل مع موظفيه وكوادره في معظم مؤسساته المدنية ومراكزه الخدمية، مع استخدامات عسكرية أخرى. أما نُظم الإسعاف والمرافق الطبية التابعة له، فتتبادل التراسل بجهاز “أيكوم إف 82″، الذي يتيح للأفراد الرد على رسالة المُشغل.
سنودن واختراق عملية التصنيع والتوريد
وفقا لخبراء، فإن أجهزة “البيجر” الحديثة لها أكواد ترميز وتشفير، تحميها من الاختراق، فلا يمكن لغير المُشغل مخاطبة الأشخاص داخل الشبكة. وعليه، فقد يكون الموساد الإسرائيلي، نجح في فك الشفرة، لشبكة “بيجر حزب الله”، وأغرقها بكم هائل من الرسائل النصية أو الإشارات اللاسلكية بما يؤدي إلى ارتفاع حرارة الأجهزة وبطارياتها (الليثيوم)، ومن ثم، انفجارها. المسؤول السابق الشهير بالمخابرات المركزية الأميركية إدوارد سنودن، استبعد اختراق الشفرة، ورجّح أن الانفجارات ناجمة عن عبوات ناسفة ضئيلة، تم زرعها بهذه الأجهزة، اختراقا لعملية تصنيعها، مُدللا على هذا الاحتمال، بتزامن انفجارها، جميعا. هذه الفرضية لدى سنودن، تدفع إلى إثارة الشكوك حول الشركة التي ابتاع منها حزب الله هذه الأجهزة، بأنها ربما تكون واجهة لـ”الاستخبارات الإسرائيلية”، أو أن تكون هذه المواد الناسفة قد أضيفت في أثناء رحلة توريد أجهزة البيجر لحزب الله. في كل الأحوال، فهذه الانفجارات لأجهزة الاتصال ذات الشبكات المغلقة تمثل خرقا خطيرا، لمنظومة اتصالات حزب الله.
مثل هذه الهجمات والاختراقات السيبرانية، تحدث كثيرا في شتى أنحاء العالم، ويتم تجاوزها سريعا. وإذا كانت “موقعة البيجر” قد أربكت “حزب الله” وصفوفه فإن جاهزيته العسكرية، على حالها من القوة والتحفز للاشتباك مع جيش الاحتلال، بروح قتالية عالية. ولديه من الأسلحة ما يردع الكيان الصهيوني.
المجد للمقاومة.