مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
وأنا أقرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ( سورة الحج)، وجدت الآيات تُخبر عن دفاع الله تعالى عن المؤمنين، وتؤكد رعايته إياهم، ومعيته لهم في معركتهم في وجه صناديد قريش المعاندين، وهذا إعلان مُطمئنٌ للفئة المؤمنة الصامدة في وجه الكفر المحارب للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم.
وبحثت عن سبب نزول الآيات، فوجدت ما يؤكد أن هذه الآيات مثلت نقلة نوعية جديدة، وشكلت افتتاحية عصر جديد لرسالة الإسلام؛ فقد عرضت الآيات منهجًا جديدًا من صور نصرة الله لدعوته ورسالته؛ فقبل نزول هذه الآيات كان المؤمنون مـأمورين بعدم رد العدوان عليهم والتحلي بالصبر، وكان الرسول حينها يمنع المؤمنين من قتال المشركين وإن اعتدوا عليهم واستولوا على ثرواتهم، فقد كان الأمر الإلهي للمسلمين ساعتها هو {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (النساء: 77)، ثم نزلت آيات سورة الحج بالإذن للمؤمنين في القتال ورد الاعتداء.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدولة العميقة بين حضارتين
لا عزاء للدم الفلسطيني في المناظرة الرئاسية الأمريكية ولكن…
غموض التجارة الأردنية الإسرائيلية
دفاع الله عن المؤمنين
ثم تفكرت في الطرق التي عرضتها الآيات، التي من خلالها سيتجلى دفاع الله عن المؤمنين، فوجدت أن الآيات استبعدت أن تكون وسيلة الدفاع الإلهي عن المؤمنين، هي تسليط صاعقة على الكفار، أو وعدًا بإغراقهم بالطوفان، أو إرسال الضفادع والقُمَّل والدم آيات مفصلات على قريش!
إذن فما هي الوسيلة التي جاءت في الآيات والتي سيدافع الله بها عن الإسلام والرسول والمسلمين؟
وجدت أن الوسيلة مكنونة في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، فالوسيلة هي الإذن للمؤمنين بالقتال ورد العدوان، ومنازلة المشركين في ساحات المعارك والوغى، عبر بذل الدماء والتضحيات والتحلي بالصبر، وحسن الإعداد واتباع أوامر القيادة، وهذا يعني أن الله سبحانه شرف المؤمنين بقيادة الرسول صلوات الله عليه وسلم، وبأن جعل النصر لدينه ومنهجه يكون بهم، ويصنع بأيديهم، ويُسجل بأسمائهم بأقلام من نور في صحائف من فضة.
وهذا الأمر منهج جديد في تاريخ الرسالات، بدأ بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه، وهو أن انتصار الحق والدين والفضيلة على الكفر والعدوان والرذيلة وأنصارها سيكون وفقًا لجهد البشر، وسنن الكون المتعارف عليها بين الناس، بعيدًا عن إرسال المعجرات والخوارق والصواعق: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59).
ففهمت أن الله سبحانه جعل سننه وقوانينه الكونية من قبل قانون التدافع، وسنن بذل الجهد، والسعي على الرزق، والتداوي، إلخ.. بوابات كبري تتجلى فيها بعض إشراقات صفات الله العُلا، وأسمائه المباركة، وأن المؤمن عندما يُباشر العمل في عالم الأسباب والسنن، سيُدرك قبسًا من حكمة الله ورحمته بالإنسان، فمن خلال تسخير الله للأسباب، وجعل الكون مصممًا ليكون خادمًا للبشر جميعًا على حد سواء؛ فقد فتح باب التنافس العادل أمام الجميع مصداقًا لقول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2).
لذلك كان من مظاهر كرم الله على الإنسان أن يمكنه من عالم الأسباب ليستخدمها، وهذا جعلني أفكر في هذه المعضلة التي انتشرت في دنيا المسلمين، والتى جعلت العداء للسنن الإلهية والنواميس الكونية عنوانًا للإيمان العميق!! وأوجدت معركة حامية الوطيس بين ثنائية التوكل على الله وحده والاعتماد على دنيا الأسباب!! وطالبت الناس بالتخلي عن الأسباب بدعوى تسليم الأمور لله، وقد تسبب هذا الأمر في ارتباك كبير لوجدان المؤمنين؛ إذ جعلهم حيارى ومترددين في مضمار الحياة، ومسار التدافع الإنساني العريض، وهذا الاضطراب نتاج عدة أمور خاطئة، هي:
أولًا: اعتبار الأخذ بالأسباب منافيًا لصحيح الإيمان والتسليم لله، وهذا غير دقيق، ففهم منطق عمل الأسباب والاستعانة بها -وأحيانًا الخضوع لمنطقها- وسيلة للتحلي بفضيلة تفويض الأمر لله؛ إذ الأسباب تتجلى فيها إرادة الله، ومعالم قدرته، وسعة علمه، وتتجسد فيها معالم رحمة الله بالخلق، فالله الملك جعل كونه يعمل وفق قوانينه السارية على الجميع، والذي يدعو إلى ترك الأسباب والكفران بها وإهمالها، حاله حال الشخص الذي يعيش في دولة قضاؤها عادل، لكنه يرفض الخضوع لدستور وقانون هذه الدولة! وأحيانًا يُعتبر ترك الأخذ بالأسباب مؤشرًا على اتباع الإنسان لشهواته، كما قال بن عطاء الله السكندري في حكمه “إرادَتُكَ التَّجْريدَ مَعَ إقامَةِ اللهِ إيّاكَ في الأسْبابِ مِنَ الشَّهْوَةِ الخَفيَّةِ”.
ثانيًا: افتراض وجود تعارض بين مباشرة الأسباب والتوكل على الله، وعكس ذلك هو الصحيح؛ فمن علامات كرم الله على الإنسان ورضاه عنه أن ييسر له الأسباب ويطوعها له كما يريد ووقتما يريد، فقد قال الله مخبِرًا عن فضله على نبيه داود عليه السلام وإكرامه له: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سبأ: 10)، أي أنه سهل تعامله مع الأسباب وجعلها مطواعة له.
ثالثًا: اعتبار معاداة الأسباب والكفران مكرمة وبطولة يجب تأسي الناس بها! وسرد القصص المساند لهذه الفكرة، والتركيز على بعض التأويلات المتعسفة لبعض نصوص القرآن والسنة من أجل خدمه هذه الفكرة، على الرغم من اعتبار القرآن أن فكرة إهمال عالم السنن الإلهية من الرغبات الإنسانية المتجاوزة في حق الله تعالى، وغير المستجاب لها، فقد قال الله تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43).
في الختام
يتضح أن دعوى وجود تعارض بين الأخذ بالأسباب وقوة الاعتماد على الله وحسن الظن به لا أساس لها من الصحة في ضوء كتاب الله وهدي وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد اعتبر ذو القرنين أن تمكنه من عالم الأسباب واحترافه في مجال عمل بناء السدود من الخير الكبير المستحق للشكر والعرفان، فقال لقومه: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} (الكهف: 95).
ونسأل الله القدير أن يمكن للمؤمنين في الأرض ويُتبعهم سببًا.