إسرائيل المختالة في مواجهة إسرائيل المستنزفة
(1) هل تختلف إسرائيل عن القاعدة؟
شاهدت مثل الملايين غيري، يوم الثلاثاء الماضي عبر شاشات الفضائيات الإخبارية، كيف تساقط اللبنانيون الحاملون لجهاز البيجر وكأنهم أوراق شجر أسقطتها رياح خريفية عاصفة، ورأيت الدهشة الممزوجة بالرعب على وجوه الناس المتحلّقين حول هؤلاء الذين تم استهدافهم والهرج الذي عمّ الأماكن التي حدثت فيها التفجيرات. لم يكن أحد يدرك حقيقة ما حدث وكيف حدث ولماذا؟ ثم بدأت الأمور تنجلي، وبدأت الأخبار تتوالى عن أنه تم تفجير أجهزة البيجر التي يحملها أشخاص تابعون لحزب الله، منهم مقاتلون ومنهم مدنيون يعملون في مؤسسات ومكاتب تابعة للحزب، وعرفنا أن حزب الله منذ خمسة أشهر استورد بضعة آلاف من أجهزة البيجر التايوانية الصنع ماركة “غولد أبولو”، وبفحصها تبين أنه تم العبث بها قبل وصولها إلى حزب الله ، فلقد تم إخفاء عبوة متفجرة صغيرة بجانب البطارية يتم تشغيلها وتفجيرها عن بعد عن طريق إرسال رسالة، ولقد نفت الشركة التايوانية توريدها لهذه الأجهزة وقال رئيسها إن لديهم وكيلا مجريا يصنعها باستخدام علامتهم التجارية، ويمكن أن يكون هو الذي ورد الشحنة لوكيله في لبنان، ولقد أسفرت التفجيرات عن إصابة 2800 شخص بينهم 200 في حالة حرجة، ووفاة 9 أشخاص بينهم طفلة، ولم تكتف إسرائيل بيوم الثلاثاء الدامي بل استكملت عمليتها الإرهابية في اليوم التالي، حيث استهدفت أجهزة اتصال لاسلكية يحملها عناصر من حزب الله وقُتل على أثر ذلك 14 شخصا وأصيب أكثر من 450 بجروح.
هذا المشهد الإرهابي المروع غير المسبوق عالميا، ذكرني بالفيلم البريطاني: “كينغزمان: الخدمة السرية” المنتج عام 2014.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالحرب مستمرة والعالم سيتغير حتما!
عام على الطوفان.. ولا يزال هناك المزيد
عندما تحدث «الملثم» بعد غياب!
وكينغزمان، منظمة استخبارات خاصة أسستها النخبة البريطانية، من الذين فقدوا ورثتهم في الحرب العالمية الأولى ووجهوا أموالهم نحو حماية العالم والحفاظ على أمنه واستقراره. في هذا الفيلم المطلوب من المنظمة، التي يتمتع أفرادها بتدريب عالٍ وأدوات تقنية بالغة التعقيد، حماية العالم من ريتشموند فالنتين الذي يجسده في الفيلم الممثل صموئيل إل جاكسون، وهو رجل ثري مصاب بجنون العظمة يريد التعامل مع تغير المناخ والتوازن البيئي من خلال القضاء على معظم البشرية ولا يتورع عن القيام بأي شيء لتنفيذ خطته المجنونة، وهذه الخطة تقوم علي خطوتين الأولى: زرع رقائق إلكترونية في رقاب أشخاص نافذين للتحكم في تصرفاتهم واتخاذهم أدوات لتنفيذ خطته وتسهيل مهمته، والخطوة الثانية ومن خلال الجمعية الخيرية التي يرأسها يقوم بتوزيع هواتف محمولة مجانية موصولة بالإنترنت على الملايين مستفيدا من سمعته كمتبرع سخي، وهذه الهواتف في حقيقتها أجهزة مفخخة يمكن تفجيرها عن بعد وبذلك يتم من القضاء على أكبر عدد من البشر بنقرة واحدة على زر في لوحة مفاتيح يتحكم فيها وحده. في الفيلم مشهد يتساقط فيه الأشخاص الذين يحملون هذه الهواتف المحمولة بعد تفجيرهم عن بعد، ذكرني به هذا المشهد الدموي والمؤلم الذي حدث يومي الثلاثاء والأربعاء. في لبنان، هذه المرة الفاعل ليس شخصا إرهابيا معتوها بل دولة عضو في الأمم المتحدة تتصرف بجرأة المنظمات الإجرامية ولا تختلف كثيرا عن تنظيم القاعدة الإرهابي، وعملية 17 سبتمبر في لبنان لا تختلف كثيرا عن هجمات 11 سبتمبر في أمريكا.
(2) إنجاز لن يردع المقاومة
لا يمكن أن ننكر نجاح عملية تفجيرات الأجهزة اللاسلكية التي كانت بحوزة أشخاص ينتمون بشكل أو آخر لحزب الله وتأثير ذلك في الحزب ووضعه في حالة إرباك وقطع التواصل بين أعضائه تمهيدا للحرب الموسعة التي ستشنها إسرائيل على لبنان، ولقد أرادت إسرائيل أن تؤكد تفوقها في المجال الاستخباري والتقني وقدرتها على الردع، وما حدث يؤكد وجود اختراق أمني في صفوف حزب الله وهو ما أدى إلى مقتل العشرات من المنتمين للحزب وقادته في الشهور الأخيرة، والفرق كبير بين عصافير الموساد وبعثات الهدهد التي روج لها حزب الله لإظهار قدرته الاستخبارية العالية وانكشاف العدو الإسرائيلي أمامه التي لم نجد لها صدى في رد حزب الله على مقتل القيادي البارز في الحزب فؤاد شكر في أغسطس/آب الماضي.
الصراع بين إسرائيل ومحور المقاومة، أشبه بمباراة الملاكمة التي يسعى فيها كل طرف لتكسير عظام الآخر وصولا إلى الضربة القاضية، نستطيع أن نقول إن المباراة حتى هذه اللحظة لم تحسم بعد وهناك جولات فازت فيها المقاومة وجولات خسرتها، ولا يمكن أن نغض الطرف عن الجولة التي كسبها الحوثيون عندما وصل صاروخهم الباليستي إلى قلب إسرائيل من دون أن تعترضه أجهزة الدفاع الإسرائيلية.
هذه الجولات الطويلة والممتدة دفعت فيها المقاومة الغالي والنفيس لكنها أيضا تستنزف جيش الاحتلال الذي يفكر في تجنيد اللاجئين الأفارقة مقابل تجنيسهم أو إعطائهم إقامة.
لا يمكن مقارنة إسرائيل بأمريكا التي لديها أقوى اقتصاد وجيش وأهم جهاز مخابرات وألمع العقول في مجال التقنيات الحديثة وأساليب التجسس والذكاء الاصطناعي، ورغم ذلك خرجت تجر أذيال الخيبة من أفغانستان بعد عشرين عاما من حرب الاستنزاف مع طالبان، لماذا؟ لأنهم حاربوا جنودا ليس لديهم ما يخسرونه إلا وطنا يدافعون عنه بأرواحهم.
طالبان حاربت أمريكا بالطرق التقليدية القديمة فلم تفلح معها أحدث المعدات، مثلما يفعل يحيى السنوار زعيم حماس التي ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أنه أربك الاستخبارات الإسرائيلية التي تعجز عن الوصول إليه بسبب نظام الاتصالات المنخفض التقنية الذي أنشأه وطوره خلال فترة سجنه، وهو يتجنب أي اتصالات عن طريق النت يمكن لإسرائيل تعقبها، بل يستخدم نظاما معقدا من الرسائل والرموز والملاحظات المكتوبة باليد التي تسمح له بتوجيه عمليات حماس من داخل الأنفاق من دون تتبع.
من حق نتنياهو أن يشعر بالزهو والغرور بعد نجاح عملية تفجير أجهزة التواصل بين أعضاء حزب الله، لكن من حق محور المقاومة وفي مقدمتهم أسود حماس بقيادة بطلهم الأسطوري يحيى السنوار أن يشعروا بالفخر لأنهم استطاعوا الصمود أمام أمريكا والغرب المساند لإسرائيل طوال ما يقرب من عام، وليس الصمود وحده بل أيضا إيلام العدو ورد ضرباته. إنها مباراة طويلة بين جنود الحق وجنود الباطل والنصر لن يكون حليف الجيش الأقوى عتادا وعدة بل للجنود الأكثر صمودا وصبرا وإيمانا بعدالة قضيتهم وسمو هدفهم.