محمود سعد يحكي
لعشر سنوات أطفأ الاستقطاب السياسي الذي شهده المجتمع المصري نجومًا في الصحافة والسياسة وبقي محمود سعد يحكي..
هاجمه البعض بشكل حاد، وشكك آخرون في موقفه السياسي، واتهمه البعض بالانحياز للسلطة الحالية في مواجهة مصالح الناس، لكنه مع ذلك ظل محتفظًا بنفس قدرته على الحضور والتأثير أمام الكاميرا، يخطف الأنظار بالبساطة والتلقائية التي يترجمها المتلقي إلى لغة من الصدق تميزه عن آخرين.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعام من البلطجة الإسرائيلية.. وماذا بعد؟
ما بين الاقتصاد اللبناني والإسرائيلي!
إيران تودع الصبر الاستراتيجي!
في الصدق يكمن الفرق بين الإعلامي الحقيقي والممثل القدير!
هذه القاعدة أثبتها الإعلامي الشهير بتأثيره الذي لم ينقطع.
عرفت محمود سعد بشكل شخصي للمرة الأولى في عام 2008، وقتها تلقيت مع زملائي في صحيفة الدستور دعوة للاحتفال بشم النسيم في ڤيلته بالشيخ زايد، وصلتنا الدعوة عن طريق زوجته الزميلة والكاتبة الصحفية الكبيرة نجلاء بدير، التقانا مرحبًا مبتسمًا، تعامل مع الحضور بمودة تليق بثقافة ابن البلد، كان سعد يستمع أكثر مما يحكي، يرتدي “الجلابية” ليكون على راحته، ويعزم على الحاضرين بالعصير والمأكولات، يمتدح موضوعاتنا الصحفية ويعرفنا بالاسم!
يومها خرجت بانطباع راسخ عن بساطة وطيبة هذا الإعلامي الذي كان في قمة نجاحه ومجده وقتها.
بتداعيات انقسام سياسي مصري حاد في أعقاب يونيو 2013 نال محمود سعد ما ناله من هجوم وانتقادات، نجا منه بقدرته على التجاوز عن الإساءات، وبتفهمه الذكي لحالة مجتمع منقسم وغاضب ومصدوم في هزيمة ثورته في جولتها الأولى، وهو الذي كان أحد داعميها منذ اليوم الأول لاشتعالها في 25 يناير 2011 ومن داخل تليفزيون الدولة ذاته.
مذكرات مرئية
على عمق وأهمية ما يطرحه في مذكراته المصورة التي يقدم حلقاتها على تطبيق “يوتيوب” اختار سعد طريقة الحكي والدردشة ببساطة..
يحكي مشواره الحافل بالتفاصيل، من بيته في باب الخلق إلى علاقته بوالدته وأشقائه، ومن عمله في مجلة صباح الخير ومكاتب الصحف العربية في القاهرة إلى تواصله مع أصدقائه والتفاصيل التي تخص صداقتهم التي استمرت منذ الطفولة إلى ما بعد الشهرة، ومن عمله الصحفي مع أساتذة كبار بقيمة رؤوف توفيق ولويس جريس إلى صعوده في عالم التقديم التليفزيوني ونجاحه في الوصول لقلوب الملايين.
على عكس كثيرين ممن نشروا مذكراتهم لا يخجل سعد أن يقول إن الصدفة لعبت دورها في أن يصل إلى شاشة التلفزيون قبل أن يحقق نجاحه الكبير، ولا يتردد في أن يحكي أوضاعه الاجتماعية والمادية الصعبة قبل الشهرة والنجاح.
في شجاعة الحكايات جاذبية أخرى تضاف إلى بساطة وعمق المحتوى الذي يقدمه.
يفعل كل هذا بتلقائية ساحرة، وبابتسامة حكاء ماهر تحمل من البساطة و”النوستالجيا” الكثير.
في حكي سعد وبساطته وبعده عن التكلف إبهار تفوق على ستوديوهات مسكونة بالكاميرات والمذيعين والمخرجين لكنها خاوية من أي معنى!
بنفس الجاذبية التي حققتها حلقات مذكراته على يوتيوب عبر الاسترسال البسيط في الحكي دخل إلى قلوب الناس في مصر من نفس الباب، وصنفه الناس باعتباره الإعلامي البسيط الذي يدافع عن البسطاء، وكأن الغضب الذي تعرض له محمود سعد بعد 2013 هو رسالة من القلوب التي التفت حوله وصنعت شهرته ونجاحه حينما ظنت أن صوته- الذي هو صوتهم- يمكن أن يسكت ولا ينتصر لهم بعد إذا اقترب من السلطة.
ثم جرت في النهر مياه كثيرة!
رحل سعد من قناة تليفزيونية إلى أخرى، وانخفضت الأسقف وحوصرت الكلمات، وظل يحاول أن يمر من أي ثقب صغير، لكنه لم يستطع، ودفع ثمن “ثقله” على قلوب بعض المسؤولين الذين ينظرون للإعلام كتابع للسلطة يترجى رضاها.
رحلة صحفية ملهمة
في رحلة محمود سعد الصحفية إلهام لأجيال جديدة تعاني من مناخ عام صعب، وقيود قاسية مفروضة على المهنة طالهم رذاذها المزعج.
فبقدر ما انتمى لصاحبة الجلالة وما لاقاه من صعوبات ومطبات متعددة جنى الثمار.
درس لكل صحفي يشق الطريق الصعب على أمل أن يصل لمحطة التحقق والنجاح!
بلهجة الناس العادية يقص الإعلامي الشهير في مذكراته حكايته في بلاط مهنة البحث عن المتاعب، يسرد مخاوف صحفي صغير يبدأ عمله الصحفي في مجلة صباح الخير التي كانت تضم وقتها أسماء لامعة في عالم الكتابة، يسأل عن إمكانية أن يحقق هذا الشاب المبتديء نجاحًا وسط عمالقة يملأ صيتهم الآفاق.
في استكمال الرحلة تأتي إجابة السؤال!
ينجح الشاب الحالم بالتميز في دروب الصحافة بالاجتهاد والتوفيق في أن يشق الطريق الصعب ليصل إلى ما يريد.
يصبح ابن صباح الخير باجتهاده ورغبته في النجاح ودعم أساتذة المهنة صحفيًا فنيًا مميزًا ومعروفًا، وصديقًا مقربًا لأشخاص لهم مكانة كبيرة في عالم الفن والثقافة، أسماء لا تبدأ بعادل إمام وأحمد زكي ولا تنتهي عند صلاح السعدني ووحيد حامد وغيرهم!
رحلة مليئة بالتفاصيل تستحق أن تروى لأجيال من الصحفيين تنتظر من ينقل لهم تلك الخبرات المهمة والملهمة.
من الشاشات إلى الشبكات الاجتماعية
في رحلته الإعلامية أدرك سعد بخبرته المتراكمة أن المساحات التي تضيق في الإعلام التقليدي يمكن أن تتسع إذا رحل إلى الشبكات الاجتماعية.
هجر التليفزيون بقيوده إلى براح الإعلام الرقمي.
في تطور الوسائل الإعلامية ما يقلل القيود ويمنح الصحفيين قدرة أكبر على التواصل مع الجمهور لا سيما أجياله الجديدة.
وفي القيود المتواصلة والحصار الشامل تغييب كامل للصحافة ودورها.
منذ لحظة انطلاقه إلى يوتيوب دشن سعد صفحة جديدة أكثر تطورًا في مشواره، اختار فيها بساطة الديكورات والشكل في مقابل عمق المحتوى والمضمون.
احتفظ بقدرته على الوصول للناس عبر الصدق الذي ميز دربه الإعلامي كله، فحافظ على جمهوره ووصل إلى متابعين جدد.
بقدرته على الحفاظ على صدقه في الإعلام الرقمي تميز سعد واستمرت مسيرته في لحظة تاريخية صعبة، خضع فيها الإعلام لاستقطاب سياسي حاد أفقده كثيرًا من مهنيته.
لذلك فإن من حق الجميع أن يتفق أو يختلف مع اختيارات محمود سعد، لكن الإنصاف يقتضي الاعتراف بقدرته على الاستمرار والتميز وتواصل حكاياته البسيطة والمهمة في آن واحد.