إسكات الجزيرة هو المستحيل
في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل تبدأ قناة الجزيرة عامها التاسع والعشرين.
القناة الإخبارية التي انطلقت عام 1996 تحولت إلى مركز لشبكة إعلامية ضخمة تتفرع منها اليوم قنوات عديدة باللغة العربية، والإنجليزية، والتركية، ثم خرجت شقيقة لها، دون منافس في الشرق الأوسط، هي إمبراطورية القنوات الرياضية (بي إن سبورتس).
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعام من البلطجة الإسرائيلية.. وماذا بعد؟
ما بين الاقتصاد اللبناني والإسرائيلي!
إيران تودع الصبر الاستراتيجي!
هذا الكيان الهائل بقنواته الإخبارية والوثائقية والرياضية، ومواقعه الرقمية، ومراكز أبحاثه المتخصصة، والنوافذ الإعلامية والثقافية والفكرية الأخرى، لم يعد ملكًا لدولة قطر صاحبة الرهان الناجح على صناعة إعلام حقيقي جاد فاعل مؤثر مسؤول مهني رفيع المستوى، بل صار ملكًا للعرب، والعالم، وهذه ليست مبالغة، إنما واقع لا شك فيه، واسم الجزيرة صار ماركة عالمية ذات شهرة طاغية لدى الشعوب والحكومات.
ليس هدف هذا المقال هو سرد قصة الجزيرة ونبوغها والإشادة برسالتها الإعلامية الناضجة المتميزة التي ترفع شعار الرأي والرأي الآخر وتطبقه بتوزان دقيق، وحرفية نادرة، وإتقان كامل، إنما الهدف الأساسي التأكيد على أن إسكات هذه المنظومة الإعلامية المتفردة أصبح مستحيلًا.
بل إن مجرد التفكير في هذا الأمر الشائن والجريمة النكراء هو كمن ينطح صخرة صماء فشلت كل عوامل الطبيعة في النيل منها ولو بقدر ذرة تراب واحدة.
صوت الحقيقة يرتفع رغم الإغلاق
فهل الصهيونية النازية عندما تُداهم مقر الجزيرة في مدينة رام الله بالضفة الغربية يوم الأحد 22 سبتمبر/أيلول الجاري بقوة عسكرية مدججة بالسلاح لتقوم بإغلاقه، هل هي بذلك تُسكت صوت الحقيقة الساطعة مثل نور الشمس المشرقة؟
أبدًا، هذه الصهيونية الفاشية واهمة تمامًا، فقد سبق أن أغلقت مكتب الجزيرة في القدس المحتلة في 5 مايو/أيار الماضي، ومع هذا ارتفع صوت الحقيقة إلى أعلى عليين كاشفًا جرائمها وإرهابها وعدوانيتها الشرسة وإبادتها المتوحشة وفظاعاتها الدائمة في التدمير والتخريب وقتل كل أشكال الحياة وتحويل كل أرض تصل إليها إلى محارق أشنع من محارق النازيين.
من يغلق مكاتب الجزيرة في القدس ورام الله فإنه بذلك يخشى كاميرا القناة وصوتها، يخاف من الحقيقة، يريد أن يصم أذنيه ويغلق عينية فلا يسمع صوت الحق ولا يرى أفعاله في الظلم والتوحش.
إذا كان المحتل الغاشم يعتبر نفسه قويًّا وعلى طريق صحيح، فلماذا يصدر قانونًا اسمه “قانون الجزيرة” يسوغ له إغلاق مكاتبها في إسرائيل، ثم يكرر ذلك في الضفة، رغم أنه وفقًا لاتفاق أوسلو فإن رام الله التي تحتضن مكتب الجزيرة هي عاصمة السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذه السلطة يُفترض أن لها سيادتها واستقلاليتها وحصانتها ومركزها القانوني الذي لا يجوز المساس به ولا التدخل فيه.
كيان الاحتلال يُثبت بممارساته التي تنتهك الاتفاقات والقوانين والمواثيق الدولية أنه مارق لا عهد ولا أمان له، ولا ثقة فيه، ولا مبرر لمواصلة التعامل معه سياسيًّا ودبلوماسيًّا علنًا أو سرًّا من جانب الحكومات العربية خصوصًا.
المحتل المرعوب من الجزيرة
لو لم تكن الجزيرة تؤرق المحتل الذي يدّعي أنه واحة الديمقراطية في صحراء عربية من الاستبداد لما كال الاتهامات الملفقة لها ثم أغلقها، فالدول الديمقراطية حقًّا لا تمس حرية الصحافة والإعلام، ولا تصادر الرأي الآخر، ولا تكتم الأصوات المخالفة، ولا تكمم الأفواه، ولا تقمع حرية الرأي والتعبير.
المحتل مرعوب من الجزيرة رغم أنها لا تمتلك بندقية ولا مدفعًا ولا دبابة ولا مقاتلة ولا قبة حديدية ولا قنبلة نووية، إنما تمتلك صوتًا قويًّا في الحق يتفوق على كل هذه القدرات العسكرية في فضح الإجرام وسفك دماء الأطفال والنساء وقتل وجرح نحو 140 ألف غزّي، وقصف المدارس والمساجد والمستشفيات والمخابز ومحطات الكهرباء والمياه والتدمير الشامل للبنية التحتية.
لا يمكن أن تكون إسرائيل هذه دولة، هي بأفعالها التي فاقت كل تصور في الفظاعة والإبادة عار على دول العالم، وعلى المجتمع الدولي، وعلى مُسمّى الدولة نفسه.
كشف الجرائم وتوثيقها
الجزيرة تصور جريمة النازي وتوثقها وتعلنها للعالم وتقيم الحجة دامغة عليه، وهو يكره ذلك، يريد التعتيم على المجازر، لهذا يُغلق مكاتبها، ويستهدف الصحفيين الفلسطينيين فيسقط منهم نحو مئتي شهيد، ويقتل نشطاء المنظمات الإنسانية كما حدث مؤخرًا لعائشة الناشطة الأمريكية التركية الأصل، وقبل سنوات للأمريكية راشيل كوري حيث سحقها بجرافة دون رحمة، كما قتل بدم بارد وبتعمد مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة التي ساهمت دماؤها الطاهرة في إثارة غضب الرأي العام العالمي عليه، ولهذا كان لافتًا أن يقوم جنوده بتمزيق صورتها المعلقة في مقر الجزيرة برام الله لأنها تمثل شوكة في قلبه فلا يريد أي أثر لها ولو كان صورة على حائط.
ذهب بوش وبقيت الجزيرة
الجزيرة تقاوم كل كارهي الإعلام الحر وتصمد في مواجهتهم ولا تنكسر أبدًا، فالحملات والهجمات بدأت ضدها منذ انطلاق بثها قبل 28 عاما مُقدمةً محتوًى وصوتًا إعلاميًّا حرًّا متحررًا مختلفًا عن السائد في الفضاء الإعلامي العربي منذ نشأته.
لهذا لم ترتح لها أنظمة وحكومات وحكام، فأغلقوا لها مكاتب هنا وهناك، وحرضوا عليها، وكذبوا عليها، ووجهوا إليها اتهامات ملفقة، لكنها تقاوم بشرف الكلمة، ونبل المقصد، وصدق المعلومة، ودقة الخبر، وتوزان الرأي، وإتاحة الفرصة للرأي الآخر مهما كانت حدته.
وفي الأخير فإنها تفوز بكل المعارك، ويخسر خصومها أمامها، كما تزداد تألقًا وشعبية وانتشارًا في أرجاء المعمورة.
نتذكر حماقة بوش الابن عندما أراد قصفها، فارتفع مبناها ومعناها، وغادر الحكم وطواه النسيان هو وحقبته السوداء في تاريخ أمريكا والعالم.
وقريبًا سيكون ذلك نفس مصير نتنياهو وحكومته المتطرفة الدموية، وستنتصر الجزيرة، بل هي منتصرة بالفعل، كما ستنتصر غزة والضفة والقدس بدماء الشهداء الأبرار.
لن تسكت الجزيرة، ولو وقفت ضدها كل الحكومات، لأن كل الشعوب تقف معها وتساندها وتشاهدها.
هذه القناة، وتلك الشبكة، وُلدت لتبقى.