“سيغرقكم طوفان الاستشهاديين”.. هل عاد كابوس إسرائيل؟

رسالة من المقاومة على أحد المباني العسكرية الإسرائيلية المحترقة في طوفان الأقصى (غيتي)

في صبيحة الخامس عشر من مارس/آذار عام 1993، قرر ساهر تمام، الشاب الفلسطيني البالغ من العمر اثنين وعشرين عامًا -وهو ابن إحدى العائلات الميسورة في نابلس- أن يكتب بيديه صفحة جديدة في تاريخه الشخصي وتاريخ بلده، فعندما كان يقود سيارته المرسيدس متوجهًا إلى رام الله كما يفعل كل يوم حاملا معه حمولة الطحينة والحلاوة ضمن تجارة عائلية اعتادها، كان في داخله شيء مختلف ذلك اليوم. إذ كانت ثورة من القهر والغضب تتصاعد في داخله مثل بركان ينتظر لحظة الانفجار.

مع عودته إلى نابلس، وحوالي الساعة العاشرة صباحا، مرّ ساهر بالطريق الذي يعبره يوميًّا، وعلى جانب الطريق، كان الرقيب عوفر كوهين والرقيب إسحاق برخا ينتظران في محطة الحافلات قرب مفترق شيلو.

في تلك اللحظة، تحول الغضب المكبوت في قلب ساهر إلى قرار حاسم. زادت قدمه ضغطها على دواسة السرعة، وسرعان ما اتجهت السيارة نحو الضابطين. شعر بقوة اللحظة عندما انحرفت السيارة فجأة باتجاههما، ودهسهما ثم فرّ هاربًا، مشاهدًا من مرآته الخلفية جسديهما غارقين في الدماء.

ما قام به ساهر لم يكن مجرد قرار لحظي، بل كان نتيجة تراكم سنوات من الغضب المكبوت، لقد شاهد، مثل غيره من الفلسطينيين، يومًا بعد يوم، كيف يجوب جنود الاحتلال شوارع بلدته وأحيائها، يعتقلون من يشاؤون، ويقتلون من يشاؤون، دون رادع أو مساءلة.

كانت تلك اللحظة بداية مرحلة جديدة في مسار المقاومة الفلسطينية. حادث الدهس الذي نفذه ساهر تمام، كان شرارة فتحت الباب لسلسلة من العمليات الاستشهادية النوعية التي هزت عمق الاحتلال الإسرائيلي. لقد عجز الجيش الإسرائيلي عن العثور عليه بعد الحادث، مما منح ساهر مكانة خاصة في صفوف المقاومة، وكان ذلك تمهيدًا لانضمامه إلى كتائب القسام، التي كانت آنذاك في طور التشكل الأول في نابلس تحت إشراف المجاهد يحيى عياش، “المهندس” الذي كان اسمه قد بدأ يلمع باعتباره مؤسسًا لنهج العمليات الاستشهادية.

أثبت ساهر جدارته بالانضمام إلى الكتائب، فبعد نجاحه في تجاوز كافة العقبات الأمنية في حادث الدهس، وقع عليه الاختيار لتنفيذ عملية استشهادية نوعية، ليكون بذلك أول استشهادي في كتائب القسام، ففي السادس عشر من إبريل/نيسان عام 1993، قاد ساهر سيارة مفخخة باتجاه مستوطنة في شمال الضفة الغربية ونجح في اجتياز كل الحواجز الأمنية، وصولًا إلى قلب المستوطنة. هناك، فجّر سيارته بين حافلتين تقلان عشرات الجنود الإسرائيليين، لتسفر العملية عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، ويدوي صدى انفجارها في أرجاء الأراضي المحتلة.

هذه العملية لم تكن مجرد تفجير جسدي، بل كانت رسالة بأن المقاومة لا تعرف حدودًا ولا قيودًا. لقد جسدت قول الشهيد غسان كنفاني: “الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، الصقور لا يهمها أين تموت”. كانت كلمات كنفاني انعكاسًا حقيقيًّا لروح ساهر، الشاب الذي كتب فصلًا جديدًا في تاريخ النضال الفلسطيني.

حماس تنقل المعركة إلى مرحلة جديدة

كتائب القسام أعلنت قبل أيام عن فتح جبهة جديدة من خلال بعث روح العمليات الاستشهادية في عمق الأراضي المحتلة من جديد. عمليات لم تكن بعيدة عن الذاكرة، خصوصًا تلك التي شلّت إسرائيل في ذروة انتفاضة الأقصى. واليوم، تعود هذه العمليات لتضع القيادة الإسرائيلية أمام تحدٍّ غير مسبوق، حيث تمثل هذه العمليات قوة رمزية وميدانية تُعيد إلى الأذهان تأثيرها الكبير خلال العقدين الماضيين.

فيديو القسام الأخير بعنوان “سيغرقكم طوفان الاستشهاديين”، لم يكن مجرد رسالة تهديد، بل إعلانًا واضحًا بأن المعركة قد انتقلت إلى مرحلة جديدة، حيث ظهر في الفيديو استشهادي قادم، لم ينفذ عمليته بعد، حاملًا وصيته في انتظار إشارة التنفيذ. هذه الرسائل النفسية تجيدها المقاومة ولطالما تمكنت من خلالها من قلب الشارع الإسرائيلي ضد حكومته.

   لماذا تعود العمليات الاستشهادية الآن؟

تأتي هذه العودة في وقت تعيش فيه الأراضي الفلسطينية واقعًا معيشيًّا صعبًا دون وجود إي تحرك إقليمي أو دولي يقتص من الإجرام الصهيوني، وكما عبّرت كتائب القسام، فإن وقف العمليات الاستشهادية كان اضطرارًا وليس اختيارًا، ومع انهيار أي احتمالات سياسية فعلية لإنهاء الاحتلال، أصبحت العودة إلى هذا النوع من العمليات حتمية. فالمقاومة ترى في هذه العمليات وسيلة فعالة لممارسة الضغط على إسرائيل وإحراجها أمام العالم.

الفيديوهات التي تنشرها المقاومة مثل “سيغرقكم طوفان الاستشهاديين”، تعكس ما كان يقوله الشهيد يحيى عياش عندما كان يتابع سير العمليات الاستشهادية “ولسه الحبل على الجرار”، فهذه العمليات وإن انخفض منسوبها خلال السنوات الماضية مع اتفاقية أوسلو وتشديد القبضة الأمنية، فإنها عائدة بقوة كقنبلة موقوتة، يتعدى تأثيرها العسكري تأثيرها النفسي لدى الداخل الإسرائيلي الذي يفقد ثقته بقدرة حكومته على حمايته.

التأثير في إسرائيل

لطالما كانت العمليات الاستشهادية تُعتبر الكابوس الأكبر لإسرائيل، وذلك لأسباب متعددة، أهمها: الخوف المجتمعي؛ إذ تُثير العمليات الاستشهادية حالة من الفزع والذعر في الشارع الإسرائيلي، حيث لا يمكن التنبؤ بمكان أو زمان تنفيذها. هذا الخوف يُلقي بثقله على الحياة اليومية للمواطنين الإسرائيليين، كما أن كل عملية استشهادية تُسهم في إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية دوليًّا.

كتائب القسام لم تترك مجالًا للشك، العمليات الاستشهادية ليست مجرد مرحلة عابرة، بل هي رسالة واضحة بأن الاحتلال سيواجه كابوسًا دائمًا، لا يمكنه الفرار منه أو التنبؤ بمساره. “طوفان الاستشهاديين” حقيقة قادمة بقوة ستحطم كل ما بناه الاحتلال من وهم الأمان، وأمام هذا السيل الجارف، لن تستطيع إسرائيل، مهما بلغت قوتها، أن تقف صامدة. إن الطوفان قادم ليعيد تشكيل المعادلة، ويثبت أن المقاومة الفلسطينية قادرة على قلب الموازين متى شاءت.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان